منذ أمسك الإنسان الأول في بلاد ما بين النهرين قلمه المصنوع من القصب ليخط على الطين أولى حروف المعرفة، تحولت تلك المسامير إلى لغة لتكون أولى الأبجديات التي عرفها العالم وظلت تشغل حيز تفكيره لتتشكل بعد قرون طويلة ملاحم عاشت في الوجدان حتى الآن. ولأنه ابن تلك الأرض راح يبحث عن قلم القصب المفقود ليدون من جديد ما خطه الشعراء ليس في بلاده فحسب بل في أماكن عديدة من الوطن العربي الكبير ، ولأنه يؤمن كذلك بكل المدارس النقدية أسلوبية كانت أم بنيوية او تفكيكية أو محورا شعرياً عمودياً أو محورا أفقياً ، حتى المناهج النفسية الداخلة في عملية النقد الاجتماعي منها والتكاملي وما خطته المرأة من شعر وكتابة ، ونظريات الفن للفن والفن للحياة. راح يبتكر طريقة جديدة في النقد – أو ليس الأدب عموما كما عهدناه لا يقف عند قاعدة واحدة أو نظرية – غايته كانت العودة إلى الجذور التي خطها أولئك النقاد العرب الأوائل بأسلوب عصري يمتهن دهشة الكلمة وجمالها ، هنا في كتابه « الاتجاه المفقود « الصادر عن دار نشر أمل الجديدة في سورية حديثا ، يقتحم ناقدنا القريشي الأسوار العالية للحروف التي توقف عندها عديد الشعراء متناولا منجزهم الشعري بقراءة واعية ومستفيضة ، لم يتهيب اسماؤهم الكبيرة التي تهّيب مجايلوه من النقاد الاقتراب منهم والكتابة عنهم أمثال د . محمد حسين آل ياسين ، شوقي عبد الأمير ، إبراهيم الخياط ، اسماء صقر القاسمي ، فتحي عبد السميع وآخرون استطاعوا من خلال قصائدهم أن يحوزوا على جمهور عريض من متذوقيهم فقدمهم ناقدنا القريشي بطريقة مبتكرة أضاف لبستانهم الشعري ورودا وأزاهير جميلة من حرفه الساحر مستكشفا بالوقت نفسه أماكن مضيئة لها دلالاتها الأخرى باتجاه كان سيظل مفقودا لولا أنه عرف الطريق إليه ، فتوقف أمام تجربة كل واحد من الذين تناوله قلمه فإذا الذي نقرأه زاد عليه جمالا وقد تكاملت صورته ووضحت رؤيته. عن د . محمد حسين آل ياسين كتب يقول : « إن الشاعر محمد حسين آل ياسين من الشعراء الذين يتمثل الشعر في وجودهم ، فهو سره المعلن في حضوره وغيابه ، يقول آل ياسين في أحد لقاءاته : « الشاعر خلق متخيلا ، متصورا ، حالما ، غارقا في تشكيل الحياة »، وأرى أن تشكيل الحياة يبدأ أولا من الحب لذا نجد انحياز شعره التام للجوهر الإنساني والجمالي والروحي ، وهنا لا نتكلم عن طقس أو مناخ شعري ولكننا نتكلم عن نسيج وبناء فكري وحضاري لشاعر مخلص لشعره ولفكره ولحضوره الذي أصبح جزءا أساسيا من المشهد الثقافي والأدبي». أما عن الشاعر شوقي عبد الأمير فهو يقول : « فالقصيدة لديه تبدأ من هناك، حتى وهو في غربته يبحث عن قيثارته الأثيرة والشجية ، لذا ترى وجه الحضارة ينعكس على ذاته وقسمات وجهه السومري » ، وبنفس همة الأحرف الأنيقة يذهب ناقدنا القريشي في قراءة الشاعر العراقي المغترب أديب كمال الدين يقول فيه : « الشعراء يحملون ذكرياتهم دائما حتى لا يشعرون بالوحشة في غربتهم ، فيودعونها المرايا لكن ذاكرة المرايا سراب و السراب حجاب لما بعده. تصوّر أن القصيدة مرآة وأنكَ تدخل في تلك المرآة تجتاز هذا الانعكاس الهلامي للضوء على سطح المرايا وتنفذ عبر هيولة الزمن : أنت الآن داخل القصيدة ، عين الشاعر المتأملة في ذاتها أولاً وفي الأشياء من حولها تماهي لغة المرايا التي هي ذاتها تبدأ من نقطة لا محددة لتنتهي بذاتها مرة أخرى ، إلى أن يقول : « الشاعر أديب كمال الدين مسحورا بالحروف يفتح نوافذ القصيدة على سلافة الأماني والأحلام ، ويدعونا لندخل إلى عالم الحروف المقدسة ، تلك الحروف التي تستوحش وحدتها فتشتاق إلى المعاني في الكلمات والكلمات هي القصيدة والقصيدة هي مرآة ذات الشاعر فالشاعر الحقيقي هو ذات قصيدته » . من هنا يمكن أن نقول أن ناقدنا يقف على درجة عالية من التخصص والتقنيات التي تتطلب معرفة مهنية لفهم النقد الذي لا يعني بالضرورة العثور على الأخطاء، ولكنه قد يعني فقط الانحياز واستكشاف جوانب مختلفة لإبداع الكاتب أو الشاعر