يمكن لبعث الحوار جنوب - شمال من خلال ترقية دور المجتمع المدني أن يوفر مناخا ملائما لكبح التوسع غير العادي للعولمة. وبالنظر للتراكمات التاريخية، فإن اعتماد معايير أنسنة هذا المسار، كما دعي إليه في منتدى «الشعب»، أمس، ونشطه رئيس مؤسسة الحوار جنوب شمال شارل فرديناند نوتومب، يمثل المنعطف الذي يقود إلى آفاق عريضة تستوعب انشغالات وتطلعات شعوب الضفتين. إن الحوار في ظل مناخ إقليمي ودولي متوتر، تغلب عليه تداعيات ضرب استقرار عديد بلدان حيز الجنوب، بتحريض ومشاركة مباشرة لبلدان من حيز الشمال، كما هي الحالة الليبية، يمثل مفتاح الأزمات التي تعكر العلاقات وتعرقل مسار التنمية. ولم تتوقف الجزائر في هذا المجال عن بذل الجهود وتجنيد الإمكانات المتاحة لضمان أرضية ملائمة لإنعاش الحوار بين ضفتي الجنوب والشمال بإدراج المجتمع المدني في تفاعلات المعادلة، انسجاما مع المبادئ والقيم المتعلقة بالسلم ورفاهية الشعوب التي تصنف ضمن ثوابت السياسة الخارجية منذ إرسائها في مرحلة التحرير واسترجاع السيادة الوطنية. وحتى ينضج الحوار، ينبغي أن يندرج في السياق الطبيعي لمواثيق المنظومة الدولية التي تكرس حق الشعوب في تقرير المصير ومرافقة بلدان الجنوب في التنمية المستدامة، بما يعزز الاستقرار ويحد من الهجرة التي فاقت كل التوقعات بعد أن أظهرت قدرة الإنسان على تحدي المغامرة وركوب مخاطر الصحراء والبحر لبلوغ أراضي الضفة الشمالية. إن بلدان الشمال التي تشهد تصاعد التيارات الحزبية المحافظة والمتطرفة، تتحمل مسؤولية تجاه الجنوب، من خلال إرساء برامج للمرافقة ودعم المشاريع التنموية الجوارية، بعيدا عن أي تأثير في الشأن الداخلي للمجتمعات أو المناورة حولها للدفع بها إلى متاهات خطيرة لا طائل منها للشعوب، بقدر ما تخدم مصالح القوى العالمية ذات النفوذ السياسي والاقتصادي وخاصة التكنولوجي. في هذا الإطار، يمثل حقل اقتصاد المعرفة الأرضية المثلى لإعادة بناء ركائز الحوار بين الجغرافيتين وفقا لمبدإ احترام الخصوصية المحلية المتعلقة بالثقافة والهوية والقيم والتاريخ، حيث تلعب الجامعات والمراكز العلمية والمخابر التقنية دور الحلقة المتينة التي تذيب التناقضات وتزيل المعوقات التي تمنع إنجاز معادلة شراكة متوازنة وعادلة لا مجال فيها للهيمنة أو تجاوز إطار التعاون القائم على عناصر القيم الإنسانية والتضامن بين الشعوب التي تعاني في الجنوب من الفقر والنزاعات والجهل بالنسبة للتحكم في التكنولوجيات الجديدة، وفي الشمال من التهديدات الإرهابية والهجرة غير الشرعية المتدفقة بشكل يثير الانشغال والقلق. لكن لبلوغ هذا المستوى الذي يمكن تجسيده بتفعيل آليات الحوار المستمر، دون تجاوز قواعد الاستقرار ضمن إطار الشرعية الدولية، يتحمل الشمال مسؤولية في الحد من تصاعد قوى التطرف، بالحرص على الروح الديمقراطية وإطلاق برامج المرافقة باتجاه الجنوب دون شروط أو مساومة من شأنها أن تخلّ بالاستقرار الذي يبقى العنصر الحيوي للتقارب بين الضفتين نحو الحقوق الإنسانية المشتركة التي تتقاسمها الشعوب، ألا وهي الأمن والتنمية والمساواة في الفرص والتضامن الإنساني.