لم تشرع الأفواج المختلطة المنبثقة عن الدورة الثالثة عشرة للثلاثية التي انفضت قبل أسبوعين تقريبا على جملة من القرارات، منها ما سقط إلى الرأي العام بوضوح مثل إقرار رفع سقف الأجر القاعدي الأدنى الوطني المضمون إلى خمسة عشر ألف دينار، ومنها ما هو غامض في المضمون مثل التسرع في إلغاء نظام التقاعد دون شرط السن بالإجماع، والعودة إلى النظام التقليدي للتقاعد بعيدا عن أي عملية تقييم لما سبق تطبيقه أو إشراك الخبرات الوطنية والنقابات في التوصل إلى الصيغة المثلى وفق قاعدة لا إفراط ولا تفريط المكرسة لقيم العدل والإنصاف. وبلا شك أن مجموعة العمل المختلطة الممثلة لأطراف الثلاثية سوف تبادر في نهاية المطاف من خلال ما يفترض من أعضائها في الإجتهاد في إيجاد الآليات العملية لتطبيق القرار المثير للجدل، والذي أنتج مواقف معارضة للتقاعد في سن الستين سنة للرجال والخامسة والخمسين للنساء العاملات، بطرح تشكيلة من التدابير تكفل إعطاء مختلف شرائح العمال حقوقها بالنسبية العادلة. وعلاوة على ما أكده المعنيون من أن للعمال الذين تتوفر فيهم شروط المنظومة الحالية للتقاعد ما يمثل مكاسب لا تسقط بالتغيير القادم لقوانين التقاعد دون توضيح دقيق لتلك الشروط وآجالها، فإن الجدل لا يزال في الواقع يحوم حول قاعدة سن التقاعد، ولماذا العمل بأسلوب بيروقراطي يعتمد على سن الستين عاما على كل الفئات، بينما في قطاعات عديدة تتطلب معاملة خاصة مثل فئات مهنية قاسية تستنزف العامل، أو عمال قطاعات لا تزال تحت طائلة التصفية مثل قطاع البناء والأشغال العمومية، إذ تكون المركزية النقابية قد تلقت غداة اختتام الثلاثية برقية من مجلس مساهمات الدولة يخبرها باعتزامها اللجوء إلى غلق مؤسستين، مما يضع عمالها في مأزق من حيث إحالتهم على البطالة أو الإحتفاظ بهم إلى سن الستين للتقاعد، وفي كلتا الحالتين الفاتورة باهظة وليس أضر منها اعتماد التقاعد المسبق. لكن لماذا يغيب الإجتهاد في ثلاثية وفرت لها الدولة كافة أدوات وشروط العمل في الجوهر بعيدا عن الارتجالية والقرارات البيروقراطية الجاهزة دون إحاطتها بما حولها من عناصر يفرزها عالم الشغل وإفرازات المحيط الإقتصادي والإجتماعي من غلاء للمعيشة، وبقاء سيف برنامج إعادة الهيكلة على رقاب عمال المؤسسات الإقتصادية العمومية التي تسعفها الوفرة المالية الراهنة المهددة بالآثار المباشرة للأزمة المالية العالمية التي دكت اقتصاديات بلدان قوية ماليا واقتصاديا. إن إلزام الشغيلة بشرط إتمام العقد السادس من العمر للتقاعد فيه مظالم جمة، خاصة بالنسبة لشريحة العمال الذين يعبرون العقد الخامس وبالأخص الذين قضوا سنوات العمل في العشرية الإرهابية والمرشحين للسقوط في المرض بما فيهم عمال الإعلام، وقد أظهرت السنوات كيف فقد العديد منهم الروح قبل التقاعد، مما يتطلب إشراكهم في النقاش على مستوى الأفواج تفاديا للإلتفاف على حقائق مرّة وإلزام إدارة الضمان الاجتماعي بالكشف عن أمراض مزمنة تهدد عمال الصحافة وتحمل أعباءَها، إذ على ما يبدو يوجد ملف في هذا الصدد تحت السرية، وإن كان كذلك فلا بد من إظهاره وتجاوز منطق البراغماتية المالية التي يمكن أن تتوجه لجوانب أخرى قد تفيد في تنمية روح اقتصاد النفقات إن كان هو الانشغال الجاد لدى المعنيين. ويكاد تجمع المؤشرات أن العامل البسيط والمتوسط في بلادنا وهذا منذ سنوات ما إن يتقاعد في الستين حتى يكون مصيره بين خيارين أحلاهما مر، وهما إما السقوط في دائرة المرض وتكليف الدولة مصاريف العلاج إن توفر بالجودة المطلوبة أو الاختفاء من على وجه الأرض، خاصة مع عدم دقة متوسط مؤشر الأمل في الحياة بالنظر لإفرازات التحولات ومصاعب الحياة التي لا يمكن تجاوزها. في ظل مثل هذا المناخ الضبابي رغم التصريحات هنا وهناك والتي بقدر ما تفيد وضوحا عند البعض، تفيد أيضا غموضا عند البعض الآخر من شركاء الثلاثية يساير الإنتظار إلى غاية شهر مارس القادم، وهو الموعد المقرر مبدئيا لتقديم نتائج وخلاصات أفواج العمل المكلفة بمختلف الملفات المسجلة، بما فيها ملف المنح العائلية الذي إن تم حسمه ليكون على عاتق المؤسسة أو المستخدم سوف يطرح حينها مشكل تشغيل العمال أرباب الأسر ومن لديهم أطفال، إذ سيفضل صاحب العمل تشغيل العزاب إلا إذا أحاطت السلطات المسألة بالضمانات اللازمة للحد من تعسف صاحب العمل، وذلك مثلا بأن تدفع الدولة المنح وتتم مقاصتها مع المؤسسات المشغلة، وهو لغز يصعب فكه في غياب ثقافة القانون والعدالة عند شريحة واسعة من أصحاب العمل الذين يغلبون منطق الربح بلا خسارة أي كانت. والواقع من المفيد أن يعاد توجيه سياق عمل الأفواج لإنتاج تصورات واقعية وقابلة للإجماع الحقيقي بعيدا عن تبرير قرارات سابقة بأنها كانت قد اتخذت تحت الضغط من صندوق النقد الدولي، وذلك تفاديا لاحتمال عودة الوقوع تحت نفس الضغط مستقبلا، وذلك بالعمل على تنويع وبالمرونة اللازمة لأنظمة التقاعد بتوسيع مساحته وتعدد صيغه وفقا لضوابط مبدئية واضحة على الأقل لمدة خمس سنوات كمرحلة انتقالية إلى أن تتضح أكثر مؤشرات المستقبل تفاديا للإرتجال والتسرع الذي ستكون كلفته باهظة إذا ما حدثت حينها ردود أفعال غير مرحب بها في بلد يعتزم الإنخراط في العولمة الإقتصادية ببعديها الإجتماعي والتضامني، وليس عولمة الرأسمال القاتل للأجيال والمبخر للآمال المشروعة التي لطالما كانت دوما في قلب التحولات.