يبدو أن قائمة الفضائح التي هزت بلادنا مؤخرا، مثل الخليفة الى "البي سي يا" مرورا ب "البي أرسي" لم تغلق بعد، فالمرشح للدخول في هذه القائمة مؤسسة عمومية استراتيجية هي الصيدلية المركزية للمستشفيات، حيث وقفنا في هذا التحقيق على عدة خروقات ومفارقات انصبت كلها في اتجاه التحايل والتلاعب بالأسعار لخدمة مصالح شخصية ترهن الصحة العمومية الجزائرية منها اللجوء الى العقود المباشرة دون المناقصات مع تفضيل مخابر أجنبية دون الأخرى، ناهيك عن التلاعب في الأسعار بالإضافة الى شراء أدوية غير أساسية مثل الفياغرا، وهو منشط جنسي. في الوقت الذي تعرف فيه مستودعات هذه المؤسسة ندرة كبيرة للأدوية، سيما تلك المستعملة ضد السرطان، وكل المأساة نلمسها عندما نشاهد مرضى يلجأون الى بيع ممتلكاتهم لشراء دواء عند الصيدلية المركزية للمستشفيات بأسعار خيالية دون أن يتحصلوا على تعويضات الصندوق الوطني للتأمينات الاجتماعية. تكشف الوثائق التي بحوزتنا أن غالبا ما تلجأ الصيدلية المركزية للمستشفيات الى عقود خاصة بدل المناقصات، مثلما ينص عليه قانون الصفقات العمومية، تقدر قيمة هذه العقود، حسب حصيلة 2006، بأكثر من 30 مليار سنتيم واللجوء الى هذا النوع من الصفقات استثنائي يهدف الى شراء أدوية ووضعها تحت تصرف المستشفيات، يكون في حالة اكتشاف دواء جديد في العالم لمرض معين، على أن يكون تسديد ممون هذا الدواء الى حين نفاذ الكمية المستوردة تماما في أجل 365 يوم، ويتضح هنا أن اللجوء الى العقد الخاص استثناء وليس قاعدة، إلا أن مسيري هذه المؤسسة الوطنية يستعملون هذه العقود للتلاعب بالأسعار من أجل الربح السريع ليس لصالح الصيدلية المركزية للمستشفيات، بل لمصالحهم الخاصة وإلا كيف يمكن تفسير أن معظم العقود التي تحصلنا عليها تؤكد لجوء "البي سي أش" الى شراء الأدوية الأغلى سعرا بدل الأقل سعرا، كما هو معمول به. ويتعلق الأمر بالعقد رقم 023/ أم او بي 01/ 2005 لشراء دواء "كاربولاتين"، فبالرغم من اقتراح أحد المخابر سعر 3582.17 دج للعلبة الواحدة، الا أن الصيدلية المركزية للمستشفيات فضلت الشراء بسعر 8 ألاف دينار للعلبة لنفس التركيبة والكمية؟؟ في هذا الصدد كشف السيد عياد المدير العام للصيدلية المركزية للمستشفيات أنه لا يمكنه أن يتذكر كل العقود، بالإضافة الى أن لجنة الصفقات على مستوى المؤسسة هي المسؤولة، مشيرا إلى أن الصيدلية المركزية للمستشفيات غير ملزمة باللجوء الى المناقصات لشراء الأدوية، بيد أن قانون الصفقات العمومية ينص على "ضرورة اللجوء الى المناقصات عندما تتجاوز قيمة الصفقات ال 6 ملايين دينار"، واعترف عياد أن قيمة الصفقات التي تتداولها "البي سي أش" هي معدل أكثر من 30 مليار سنتيم، معترفا أن طريقة العقود المباشرة كانت تجربة للبي سي أش، الى حين أن تستقر أمورها الإدارية والتجارية والنظر في تطور واحتياجات الأدوية في السوق بعد أن أشار إلى أنه كلف مكتب خبرة محايد اختاره شخصيا للتدقيق في حسابات هذه الصفقات، مضيفا أنه قرر شخصيا توقيف هذا الإجراء مؤخرا، أي نهاية 2006. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة الوطنية أنشئت لتموين المستشفيات ما جعلها "توصف بالقلب النابض للصحة العمومية" في بلادنا، إلا أننا نجدها تستورد أدوية باهظة الثمن لا تستعملها المصحات والمستشفيات لا توجد إلا في الصيدليات، بمعنى أن المستشفيات لم تطلبه من هذه المؤسسة، مثلما هو الأمر بالنسبة لدواءين لعلاج الربو مثل دواء "ديكلوميتازون" بمقدار 3500 علبة بسعر 1380.30 دج، والأغرب من ذلك أن الممون لهذا الدواء، وهو المخبر الإيطالي "كيزي فارما"، قد قبض أمواله في نوفمبر الماضي، قبل أن ينفذ هذا الدواء، مثلما ينص على ذلك العقد الخاص المسمى، حسب اللهجة الإدارية للمركزية الوطنية للمستشفيات، ب "عقد الوضع للبيع". والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أين ذهبت هذه الكميات؟ ومن قبض ثمنها؟ حاولنا الاتصال بالمخبر الإيطالي بالجزائر، لكن دون جدوى، في الوقت الذي تنتج فيه الشركة الوطنية لصناعة الدواء "صيدال" أنواعا مختلفة لأمراض الربو، قال بشأنها السيد علي عون الرئيس المدير العام لمجمع صيدال إن لديها نفس الفعالية، والأكثر من ذلك - يضيف المسؤول ذاته - أن "البي سي أش" أوقفت كل أنواع الشراء مع صيدال وتفضل اللجوء الى المخابر الأجنبية، في الوقت الذي يوصي فيه الرئيس بوتفليقة بضرورة تشجيع الإنتاج الوطني ويتعلق الأمر - حسب عون - بدواء الأنسولين مثلا المنتج من طرف شركته، إذ رغم مرور سنة على دخول المصنع حيز الإنتاج، الا أن البي سي أش لم تشتر ولو علبة واحدة من الشركة الوطنية للدواء". وبخصوص مسألة استلام مخابر أجنبية لمستحقاتهم قبل أن يفض الدواء في السوق أوضح مدير الصيدلية المركزية للمستشفيات أن هذه حالات يمكن أن تكون تدريجية كلما بيع جزء من الدواء في السوق، رغم أن كل عقود الوضع التي اطلعنا عليها لا تنص على هذا الإجراء. مرضى يبيعون ممتلكاتهم لشراء أدوية ويتساءلون عن الطب المجاني؟ اكتشفنا ونحن نجري هذا التحقيق على مستوى الصيدلية المركزية للمستشفيات، سيما على مستوى خلية الاستعجالات، وهي فرع قرر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إنشاءه مباشرة بعد فيضانات باب الوادي حتى تكون هذه المؤسسة الاستراتيجية قادرة على شراء أدوية بسرعة لتموين المرضى بالأدوية "اليتيمة"، أي الأدوية التي تستعمل لعلاج أمراض خطيرة لا يكثر عليها الطلب بكميات كبيرة أو أدوية غير مسجلة تستعمل للأمراض النادرة نقلا عن الشروط التي يتضمنها القرار الوزاري المؤرخ ب 15 مارس 2004، والمشار إليه بعد توقيع وزير الصحة وإصلاح المستشفيات والمؤكد على "أن القرار يتضمن الأدوية غير المسجلة على مستوى وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات والموجهة للأمراض الخطيرة والنادرة المعنية بالصندوق الخاص بالاستعجالات" استغربنا لوجود مرضى على مستوى هذه الخلية حاملين وصفات طبية متضمنة ضرورة شراء أدوية موجهة لعلاج أنواع السرطانات وبأسعار أقل ما يقال عنها إنها خيالية، على غرار دواء "غليفاك" لعلاج سرطان الدم والمحدد من طرف "البي سي أش" بسعر 310000 دج للعلبة الواحدة من مجموع 20 علبة مؤشر عليها ودواء "كسيلودو" لعلاج سرطان الكولون ب 35 ألف دينار للعلبة الواحدة. والمأساة أن المرضى والأهالي الذين وجدناهم بعين المكان أكدوا لنا أنهم لجأوا الى بيع ممتلكاتهم لشراء هذه الأدوية، لأن لا شيء - حسب رأيهم - له سعر "لصحة الانسان"، حسب ما قاله لنا السيد (ن.م) الذي أوضح لنا أن "طبيبا مختصا في المستشفى الجامعي مصطفى باشا قال له إنه أراد علاج ابنته المصابة بسرطان الدم والبالغ سنها 12 سنة وعليه شراء دواء "غليفاك" اغرورقت عينا الرجل بالدموع، وقال "بعت سيارتي لشراء هذا الدواء لابنتي" وهناك مرضى يوجدون، حسب هذا الأب، على فراش الموت ويطلب منهم شراء هذه الأدوية؟ بحثنا في الأمر وتوصلنا الى أن هذا الدواء مسجل على مستوى وزارة الصحة، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ لجأت "البي سي أش" الى شراء الدواء الأصلي بدل الجنيس المعروف باسم "ايماتيب" الذي لا يتجاوز سعره ال 24 ألف دينار للعلبة؟ والأكثر من ذلك أن هؤلاء الجزائريون تساءلوا عن وجهة الطب المجاني في الجزائر، مع أن هذه الأدوية غير معوضة لدى الصندوق الوطني للتأمينات الاجتماعية. ويقول البروفيسور بوزيد إن "اليوم المريض هو من ينفق على صحته من جيبه الخاص، خاصة ما تعلق بالأمراض الخطيرة مثل السرطان لغياب سياسة واضحة تنظم استيراد وتوزيع هذه الأدوية. وأكد السيد بوزيد أن المريض يحمل وصفته الى البي سي أش لشراء أدوية تعجز بعض الحكومات على شرائها، أمر وصفه بغير المعقول ويرهن الصحة العمومية في بلادنا. واستطرد رئيس "بيار ماري كوري" أنه اتصل شخصيا بوزارة الصحة للاستفسار في الأمر، فقال لي مسؤولون بها إن المستشفيات هي المسؤولة عن شراء هذه الأدوية، لأن لديها الميزانية الخاصة لذلك، فيما يضيف البروفيسور بوزيد أن المستشفيات تقول لنا إن ميزانيتها السنوية لا تكفي لشراء هذه الأدوية الباهظة الثمن. وبين هذا وذاك - يضيف الدكتور بوزيد - فإن المريض هو من يدفع الثمن، ويكفي أن يهتف أي أحد الى الصيدلية المركزية للمستشفيات من أجل أن يطلب سعر أي دواء يريده. في هذا الصدد تجاهل السيد عياد مدير الصيدلية المركزية للمستشفيات المغزى من إنشاء خلية خاصة بالاستعجالات، وراح يؤكد لنا أن هذه الأخيرة أنشئت من أجل تموين المرضى الخواص بالأدوية. وفي كل الأحوال، يضيف هذا المسؤول، فإن المريض يعوض بعد أن أوضح أن مهمة مؤسسته تنتهي عندما تعطي هذه الأخيرة للمريض وصل شراء يمكن أن يقدمه "للكناس" من أجل تعويضه، بيد أن الصندوق الوطني للتأمينات الاجتماعية يعوض الخواص بخصوص الأمراض المزمنة وليست النادرة التي من المفروض أن تقتنيها المستشفيات مباشرة. شراء الفياغرا بدل دواء السرطان سوء التسيير والتلاعب بالأموال العمومية لا يقف عند هذا الحد، ففي الوقت الذي توجد فيه الصيدلية المركزية للمستشفيات لتموين الصحة العمومية بكل المستلزمات الصحية من أدوية ومعدات استشفائية لتفادي أزمة في الأدوية، خاصة الحيوية منها في حالة ظهور أمراض أو استعجالات، قامت الصيدلية المركزية للمستشفيات بشراء أدوية غير أساسية مقابل وجود ندرة كبيرة لأدوية أساسية، مثل تلك المستعملة لعلاج السرطان، حيث اكتشفنا انه بتاريخ 17 أكتوبر 2006 للمرجع 1001 دي جي 2006 لجأت الى شراء 100 علبة من دواء "سيلدينافيل سيترات" 50 مغ وهي التسمية المشتركة لدواء الفياغرا (منشط جنسي) بمبلغ 4100 أورو، وقد تم التأشير على وصل الشراء بأن القضية مستعجلة لا تحتمل التأخير.. وللقارئ أن يتساءل عن سر لجوء الصيدلية المركزية للمستشفيات، والغريب من ذلك أن وزارة الصحة أشرت على طلب التسجيل عن طريق ترخيص مؤقت استعجالي، بيد أن الدواء غير أساسي، والأغرب من ذلك أن التسجيل تم بسعر 20.730 دج، وتم شراء هذا الدواء من خزينة المؤسسة لدى مخبر" تديس" بسعر 41 أورو. السؤال أين هي مصلحة المؤسسة الجزائرية من هذا العقد؟ نفى عياد شراء مؤسسته لهذا الدواء، رغم أن الوثيقة التي تثبت ذلك بحوزتنا، ومع ذلك أوضح أن البحث العلمي كشف أن الفياغرا يستعمل لعلاج بعض أمراض التنفس. ويؤكد الدكتور كمال بوزيد رئيس مركز "بيار ماري كوري" لأمراض السرطان أن مصلحته "تعيش مشاكل كبيرة بسبب النقص والانقطاع المتكرر لأدوية مرضى السرطان، وفضل الدكتور بوزيد عدم سرد هذه الأدوية، لأنها ببساطة عديدة ومتعددة وأنها تحضر تارة وتغيب تارة أخرى، الأمر الذي يرهن صحة العديد من المرضى. في هذا السياق أوضح السيد عياد أن هذه الأخيرة غير قادرة على التحكم في الندرة، لأن ذلك مرتبط بممارسات المستشفيات التي لا تتقن هذه العملية، حيث يلزم الأمر مسؤولي المستشفيات إرسال برنامج واضح لتأمين المخزون وإلا - يضيف المصدر ذاته - تكون المؤسسة تخاطر بشراء أدوية قد تنتهي صلاحيتها في أي لحظة، مقابل تأكيده على أن دور المؤسسة هو في المرتبة الأولى السهر على توفير مخزون استراتيجي للبلاد. وقد يتساءل القارئ عن محل نقابة المؤسسة من كل ما يحدث، ويزول التساؤل عندما نعلم أن رئيس الفرع النقابي حظي بعناية خاصة من طرف المدير، حيث تشير الوثائق التي بحوزتنا إلى تعيين مدير "البي سي أش" السيد عياد رئيس المجلس النقابي في منصب أول مسؤول عن الأمن في الصيدلية المركزية للمستشفيات، وهو قرار يتعارض صراحة مع المادة 22 فقرة 3 من المرسوم التنفيذي رقم 96-158 المؤرخ في 4 ماي 1996، فضلا عن الترقية المفاجئة في رتبته من 14 الى 19 دون أي مبرر واضح. عزوز سعاد مدير الصيدلية المركزية يشغل المنصب بالنيابة منذ نوفمبر 2004 معلوم أن السيد عياد يشغل مديرا للصيدلية المركزية للمستشفيات بالنيابة يوم 03 نوفمبر 2004، ولايزال هذا المسؤول يسير هذه المؤسسة بصفته مديرا بالنيابة الى يومنا هذا، وفي ذلك مخالفة صريحة للمرسوم التنفيذي رقم 90.226 المؤرخ في 25 جويلية 1990 الخاص بتعيين المسؤولين الكبار، حيث ينص هذا المرسوم "النيابة لا تمنح صفة الوظيفة السامية"، وكذلك في حالة شغور وظيفة سامية، فإن السلطة المخولة تعين بقرار نائبا وتقترح تعيين مدير دائم في ظرف لا يتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ شغور المنصب وكذلك مدة النيابة محددة بسنة واحدة، يمكن أن تجدد مرة واحدة". والسؤال هنا هو لماذا لم يعين وزير الصحة الى يومنا هذا مديرا عاما دائما على رأس هذه المؤسسة الهامة، سؤال بقي مطروحا، علما أن وزير الصحة هو رئيس مجلس إدارة هذه المؤسسة، في الوقت الذي قال لنا السيد عياد إن الأمر لا يهمه، لأنه لا يطمح في المناصب العليا والمسؤولية.