إن التحرر السياسي الذي كافحت البلاد من أجله سنين طويلة قد تم تحقيقه في سنة 1962 ونالت به سيادتها، ولكن نتائج التحرر لم تشمل باقي المجالات المتعلقة بمكونات المجتمع، والتي استمر الكفاح من أجل استكمال تحريرها وما يزال. ومن أهم هذه المجالات التي لم يشملها التحرر، المجالُ اللغوي الذي بقيت فيه اللغة الفرنسية مهيمنة على معظم الجوانب الحياتية وعلى الوظائف الفكرية التي لا يتم استقلال البلاد إلا إذا تحررت من هيمنة هذه اللغة، وأسند الأمر فيها إلى اللغة الوطنية، أو إلى قرار الأمة في مجالات التعامل اللغوي. إن هيمنة اللغة الأجنبية في أي بلد إذا تجاوزت امتداداتها الحدود التي رسمت لها تصبح وجها من أوجه الاستعمار الفكري الذي يزيد البلاد تأخرا، لذا يجب التصدي لمقاومتها ووضع حد لتوسعها وانتشار تأثراتها حتى لا تزاحم لغة البلد، وتتبوأ وظائف ليست لها، لأن الاستعمار الفكري من شأنه أن يوجه القائمين على شؤون البلاد إلى عدم الاهتمام بلغتهم وبقيم مجتمعهم ويهيئهم لقبول الأفكار التي تأتي من خارج محيطهم، لذا يجب تصحيح هذا الوضع. إن واقع هيمنة اللغة الفرنسية الذي تعيش البلاد تحت تأثيرات جوانبه المختلفة سيظل عائقا من العوائق التي تعوق الأمة عن تحقيق ما تتطلع إليه في مجال التحرر من التبعية الفكرية والثقافية إذا لم يوضع حد لمجال استعمالاتها وللمكانة التي تحتلها، وللأعمال التي تمارسها، وتضبط للتعامل معها ضوابط سياسية وفكرية تجنب البلاد تأثيراتها، وتبعد التعامل بها في المصالح والوثائق التي لها صلة بجمهور المواطنين. وإذا لم نواجه هذا الواقع ونقاوم تأثيراته ونسعى إلى تصحيح أوضاعه فإن تأثيراته ستستولي على كل جانب من جوانب الحياة التي يعيشها المجتمع، أو عند ذلك تفقد اللغة الوطنية دورها ويصبح التعامل معها خاضعا لما يفرضه هذا الواقع، ومن ثم يضعف الاهتمام بها، وقد تحل اللغة المهيمنة محل اللغة الوطنية في مجالات التعامل، هذا هو حال السياسة اللغوية عندنا. وهذه الحالة تدفعنا إلى التساؤل: لماذا لا يتجه تفكير المسؤولين إلى مراجعة عميقة لأوضاع المشكلة اللغوية، وتصحيح الوجهة التي تسير عليها، ووضع حد لهيمنة اللغة المستحوِذة؟ ولماذا لا نضع حدا لهذه الهيمنة المستحوِذة على العديد من المجالات؟ إن المطلوب من المسؤولين أن يرسموا سياسة لغوية بديلة تحدد من خلالها المكانة السيادية للغة الوطنية وللوظائف التي لا يجوز أن تُسند لغيرها في مجتمعها، سياسة وطنية تختار إلى جانب اللغة الوطنية لغة أخرى أو لغات حية لها مكانتها العلمية تجعلها البلاد سندها في التفتح على التجارب العالمية. إن الوضع اللغوي الذي تعيشه بلادنا بحاجة إلى مراجعة دقيقة تحدد الدور الذي يعطى للغة الوطنية في مجالات التعامل ويفتح لها المجال في الدخول إلى التعليم العالي كممارسة الاختصاصات العلمية التي تعطى لغيرها في مجالات التعليم والتكوين، ومن مهام المراجعة تحديد نوع اللغة الأجنبية التي تدعم اللغة الوطنية والتي تحتاجها البلاد وتمكِّنها من مواكبة التجارب العالمية التي ترفع شأن البلاد وتهيئتها للتفاهم مع شعوب العالم. واللغة التي تؤهلها لهذا الوضع هي اللغة الإنجليزية التي أصبحت كل الأنظمة تهتم بها، ولكن بلادنا لم تمكِّنها من أن يكون لها وجودٌ متميز في مرحلة التعليم العام، وتهيئتها لتصبح أداة التعليم المخصص في التعليم العالي، هذا الوضع يمكن تصحيحه ومراجعته إذا راجعنا مواقفنا وتأملنا في صناعة مستقبل بلادنا، ونستطيع ذلك إذا درسنا أوضاع البلدان التي تعتمد لغتها أساسا مثل فرنسا، ولكنها لا تكتفي بها، بل تجتهد في اختيار لغة أخرى تدعم بها لغتها، وتستطيع إخراجها مما هي فيه، فمتى نقتدي بالبلدان التي تفكر في الاستعانة باللغة التي تخرجها من الوضع الذي لا يرضيها؟ متى نقتدي بما يجري في فرنسا في مجال التفكير في إبداء الاهتمام باللغة الإنجليزية التي تقرر أن يدعم المسؤولون بها لغتهم، ويواجهوا حقائق العولمة ويقتحموا ميادين التطور العلمي والحضاري، ويمكِّنوا فرنسا من إحداث تغييرات كبرى تجعل البلاد في مستوى علمي راق، يساعد على الخروج من الانغلاق على الذات ويهيئ المتعلمين لمسايرة التطور. وحدثَ في الأيام الأخيرة بخصوص هذا الموضوع أن الوزير الفرنسي الأول إدوارد فيليب، عقد ندوة صحفية يوم 23/2/2018 في مدينة "ليل"، أوضح فيها حاجة فرنسا إلى هذا التغيير، لقد ركز في كلامه على أهمية اللغة الإنجليزية، وبيَّن أنها اللغة المهيمِنة عالميا، فهي لغة التفاهم بين شعوب العالم، وهي الوسيلة التي تتيح للمتمكن منها حُسن التعامل مع مجالات العولمة، فالحكومة الفرنسية حسبما أوضح، مدعوة إلى توفير الظروف والوسائل التي تمكن الطلاب في المرحلة الثانوية والجامعية من اجتياز الاختبارات التي تنظم عالميا للحصول على شهادات دولية معترف بها تمكِّن حاملها من اقتحام عالم التحكم في الإنجليزية، وهذا يمكن من الاندماج مع الهيئات العلمية العالمية، هذا ما ينبغي التفكير فيه، فهل نحن مستعدُّون للسير وفق هذا الاتجاه؟ هل نحن متهيئون للخروج من الدائرة الضيقة التي وضعتنا فيها اللغة الفرنسية؟ والتوجه نحو الدائرة الأوسع هي دائرة اللغة الإنجليزية، وهي الدائرة التي يراها الوزير الأول الفرنسي أنها الملائمة للخروج من الانغلاق على الذات والتقوقع في مجال لا يخرجنا من التخلف؟ فهل نحن مستعدون لممارسة هذا التفكير؟ إن التفكير في التوجه نحو الاهتمام باللغة الإنجليزية تفكيرٌ عشناه في الماضي في بداية التسعينات، حين تبنِّينا فكرة تعليم اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية أولى في المرحلة الابتدائية إلى جانب الفرنسية (يختار التلاميذ واحدة منهما) لقد تبنت الحكومة هذا الموضوع، ونظمت الوزارة المعنية خطة للتنفيذ، وشرعت في العمل بها، وبعد سنوات من العمل عدلت الوزارة عن الموضوع. واليوم ألا يحق لنا أن نحيي الفكرة من جديد، وننظم عمل المدرسة وفق هذا الإجراء الذي يستهدف إعطاء اللغة الإنجليزية المكانة التي تلائم وجهتنا العلمية، ورؤيتنا التربوية، لأنه إجراء يجعلنا نستجيب لحاجاتنا واهتمامات أجيالنا، وهذا هو الاتجاه الذي لمسناه في مضمون الخطاب الذي ألقاه رئيسنا السيد عبد العزيز بوتفليقة أمام أساتذة جامعة البليدة حين زار هذه الولاية في بداية عهدته الأولى؟ لقد تحدّث مطولا في هذا اللقاء عن المدرسة وعن التعليم وعن الإصلاح التربوي واللغات الأجنبية، وعن المكانة التي ينبغي أن تُعطى لهذه اللغات، وأشار في هذا الخطاب إلى بعض عيوب المدرسة الفرنسية التي أثرت في بعض المتعلمين والتي استمدت منها المدرسة التي تعيش معنا بعض توجهاتها، وقارن بينها وبين المدرسة الأنجلوسكسونية التي تتميز عن الأولى، وأبدى اهتمامه بها وبلغتها، وما عابه على المدرسة الفرنسية التي عاشت في مجتمعنا أن ما قدمته لنا لا يرقي أوضاعنا، لأنها وجهتنا وجهة غايتها إقناعنا بأن اللغة الفرنسية هي الأداة التي تمكننا من التفتح على عالم المعرفة وجعلنا بهذه الوجهة لا نعطي قيمة لتعلم اللغات الأخرى بما فيها اللغة الفرنسية. وما يستشف من كلامه عن واقع المدرسة أنها بحاجة إلى المزيد من الإصلاح، فبالرغم من أننا غيّرنا مناهجها، وحددنا السياسة التي تنتهجها فإنها ماتزال متأثرة بالاتجاهات التي كانت تسير عليها المدرسة الفرنسية التي ورثناها، تلك المدرسة التي لخصت الصحافة بشأنها وصفا ورد في كلام الرئيس عنها مفاده، نحن ضحايا المدرسة الفرنسية المدرسة التي فرضت علينا منهجها ومضامينها التي لا تستجيب لطموحنا، وقد علق الرئيس، وهو يتحدث عنها على بعض الدعوات المنادية بالتغيير والإصلاح لواقع هذه المدرسة، وانتقد بعض الدعوات التي لا تخدم ما نرجوه من التغيير، وقد ركزت الأفكار التي أثارها على السعي إلى التفتح على اللغات والدعوة إلى التكبير بتعليم اللغة الأجنبية، وترقية الوعي بأهمية العناية بالمعرفة العلمية التي ينبغي أن تركز عليها في إصلاح المناهج وتجديد السياسة التعليمية، وما فهم من تعليقه على دعوات الإصلاح التغيير أنه لا يساير من يدعون إلى الرجوع إلى الوضع التعليمي الذي كانت عليه المدرسة في البداية في السنوات الأولى، ولا يساير كذلك من يعارضون الدعوة إلى التفتح على اللغات والتبكير بتعليم اللغة الأجنبية واقتباس ما تتبعه بعض الأنظمة الغربية، لأن هذه الدعوة تدفعنا إلى التقليل من الاهتمام بالحياة المعاصِرة، وتُرجعنا إلى توجهات المدرسة التي كانت تضيّق الخناق على لغتنا ولا تتيح لنا أن نتفتح على غير لغتنا، هذا ما فُهم من كلام الرئيس عن واقع المدرسة وعن الحقائق التي مازالت متأثرة بها، ولذا رأيناه يقارنها مع المدرسة الإنجليزية ويذكر أهميتها وأهمية لغتها التي هي اللغة المهيمنة عالميا. وهذا جانب من الإصلاح الذي يتطلع إليه والذي دعا إلى إنجازه من خلال اللجنة التي شكلها في سنة 2000 وهي اللجنة التي سُميت بلجنة "بن زاغو" وأختم هذه المقالة بذكر العناصر والجوانب التي استخلصت منها، هذه المقالة هذه العناصرهي: 1- ما ورد في حديث الوزير الفرنسي الأول يوم 23/2/2018 في الندوة الصحفية التي عقدها، والتي أثار فيها موضوع الاهتمام باللغة الإنجليزية والدعوة إليها. 2 – ما تضمنه خطاب رئيس الجمهورية الذي ألقاه أمام أساتذة جامعة البليدة عند زيارته الولاية في بداية عهدته الأولى، والذي تناول فيه واقع المدرسة والتأثيرات التي تابعتها من المدرسة الفرنسية. 3 – أهمية الفكرة التي تبنتها الحكومة في الماضي بشأن إقرار تعليم اللغة الإنجليزية كلغة أولى في المرحلة الابتدائية. 4 – الأفكار التي تعيش في أذهان المربين والمهتمين بالمدرسة في مجال اختيار عناصر السياسة اللغوية في بلادنا. 5 – ما تفكر فيه الأمة وتهتم به في مجال تطوير الوضع اللغوي واختيار اللغة الملائمة لسياستنا في المجال التعليمي. هذه العناصر الخمسة هي التي دفعتني إلى تناول هذا الموضوع، نأمل أن يتجه اهتمام المسؤولين إلى معالجة هذا الموضوع بالعمل على تمكين البلاد من استقلالها اللغوي وتحريرها من أهمية اللغة الفرنسية التي استحوذت على العديد من المجالات. **************** * من أهم هذه المجالات التي لم يشملها التحرر، المجالُ اللغوي الذي بقيت فيه اللغة الفرنسية مهيمنة على معظم الجوانب الحياتية وعلى الوظائف الفكرية التي لا يتم استقلال البلاد إلا إذا تحررت من هيمنة هذه اللغة، وأسند الأمر فيها إلى اللغة الوطنية، أو إلى قرار الأمة في مجالات التعامل اللغوي.