لقد أحدث موقف الشيخ فركوس المتمثل في إخراج أتباع المدرسة الأشعرية والماتريدية والصوفية والإخوان والأحزاب الإسلامية والجماعات الدعوية والخيرية من (أهل السنة) صدمة في نفوس الكثير من الجزائريين وغيرهم من الذين ينتمون لهذه الجماعات والمدارس. والذي زاد من غرابة موقفه أنه ألحق بهم البعض ممن يشاركونه أتباع منهج السلف، كما يزعمه ويتصوّره، لمجرد إنشائهم أحزابا وتنظيمات في أوطانهم. وبناء على ادعائه بأن (أهل السنة) اسم شرعي وانتفاء من وجهة نظره أن يكون جميع هؤلاء قد تحققت فيهم خصائص هذا الاسم ومعانيه ذهب لتحريم إطلاقه عليهم قائلا بأنه (اصطلاحٌ يَمتنِعُ عليهم التسمِّي به باعتباره اسْمًا شرعيًّا… لا يجوز تسميتُه به فضلًا عن أَنْ يجوز له التسمِّي به). والحق توجد في الإسلام أسماء توصف بأنها شرعية كاسم المسلم أو المؤمن أو الكافر أو المشرك أو الفاسق وهي أسماء قد انفرد بتحديد معانيها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ورتبا عليها أحكاما دنيوية وأخروية بحيث لا يجوز لغيرهما الاجتهاد في معانيها وأحكامها. ومن منطلق هذه الحقيقة أضحى كقاعدة شرعية تحريم إطلاق هذه الأسماء وكذا إجراء أحكامها على أي شخص إلا بشرط تحقق خصائصها فيه. وأكثر وأهم ما جاء التحذير منه هو التكفير لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم برجوع التكفير على قائله إن لم يكن من كفره كذلك. ويعتبر الانحراف عن معاني وأحكام هذه الأسماء من أخطر ما يمكن أن يدخل على عقيدة وسلوك المسلم ما دفع العلماء لإدراجها في أبحاث العقيدة وهو باب "الأسماء والأحكام" بل كان هذا النوع من الانحراف أول سبب لاختلاف المسلمين وتناحرهم وتمزيق وحدتهم التي كانوا عليها حتى نهاية خلافة عثمان رضي الله عنه. وبالرجوع لما حددته القاعدة التي سبق ذكرها فإن الأسماء التي يتواضع عليها المسلمون حتى ولو كانوا أفضلهم كالصحابة رضي الله عنهم لا يقال عنها بأنها شرعية أو أن لها حقيقة شرعية بل حقيقتها عرفية بحسب ما قصده واضعوها، قال الإمام الشوكاني (إن الشرعية هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع لا بوضع أهل الشرع) إرشاد الفحول 1/136 وقال الإمام الزركشي (وأما بالنسبة إلى المتشرعة فليست حقيقة شرعية بل عرفية) البحر المحيط 2/166. وإن الباحث عن واضع مصطلح (أهل السنة) في الإسلام يمكنه التأكد بأنه لم يرد لا في كلام الله ولا كلام رسوله بل وضعه واستعمله سلفنا الصالح وإن كان من الصعوبة بمكان معرفة أول من استعمله منهم، وقد يكون أولهم التابعي محمد بن سيرين المتوفّى سنة 110 ه حين قال: (كانوا لا يسألون عن الإسناد حتّى وقعت الفتنة، فلمّا وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد، ليُحدَّث حديث أهل السنّة ويُترك حديث أهل البدعة) رواه مسلم. وكان قصد السلف من وضع وإجراء هذا الاسم على أنفسهم وعلى السواد الأعظم من المسلمين إبراز تمسكهم بسنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وتميزهم عن الفرق المنحرفة التي ظهرت بعد وفاة عثمان رضي الله عنه والتي تطوّر وتوسع انحرافها حتى شمل قضايا عقائدية وعملية بعدما كان مقتصرا على الموقف من شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وربما اقتبسوا معنى هذا الاسم من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم عندما خاطبهم بقوله (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليك بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. فاسم (أهل السنة) لا يحمل إلا معنى تعريفيا ووصفيا للجماعة التي تتمسك بالسنة وهو من جهة الوصف والتعريف بجماعة من المسلمين يشبه اسم المهاجرين أو الأنصار. واعتمادا على هذه الحقيقة يتأكد خطأ الشيخ فركوس بادعائه أن (أهل السنة) اسم شرعي بل لا يصح وصفه بالشرعي ولا اعتباره من أسماء المدح الشرعية كاسم المؤمن أو المسلم بل هذا النفي ينسحب على كل الأسماء التي وضعها المسلمون أو قد يضعونها مستقبلا لتعيين الجماعات والفِرَق والطوائف سواء كانت محمودة أو مذمومة وسواء كانت عقائدية أو فقهية أو سياسية أو دعوية أو خيرية. وربما وجب التنبيه عند هذا المستوى من الكلام أنه لا يصح فهم نفينا أن تكون الكثير من الأسماء ك (أهل السنة) أو (الفرقة الناجية) أو (أتباع السلف) أو (الطائفة المنصورة) أو (أهل الحديث) أسماء شرعية أننا نمنع استعمالها أو نذم من اتخذها لقبا له بل العكس يستحسن استعمالها لما تحمله من معنى دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يكن قصدنا من هذا النفي إلا أن تكون لهذه الأسماء خصوصية الأسماء الشرعية وكذا التحذير من خطورة تعامل بعضهم مع بعض بأحكامها فحسب. والصحيح أن الشيخ فركوس لم يجر أحكام الأسماء الشرعية على أتباع المذهب الأشعري والماتريدي والصوفية والإخوان والأحزاب الإسلامية والجماعات الدعوية كمنع الزواج منهم أو إقامة صلاة الجنازة عليهم أو أكل ذبيحتهم أو حرمانهم من الميراث أو جلدهم أو رجمهم أو الحكم خلودهم في النار إن دخلوها وغير ذلك من الأحكام إلا أن وصفه لهم بالمبتدعة وأهل الأهواء ينجر عنه اعتقاد أتباعه وعامة من يأخذون بفتاواه وجوب معاملتهم معاملة أتباع الفرق المشهورة بالضلال والابتداع كالشيعة والخوارج والقدرية والجهمية بحكم أن الجميع عنده مبتدعة وضالون ومن أهل الأهواء. والحق يقال إن الشيخ فركوس في هذا الموقف لم يشذ عما يذهب إليه كل منظري ودعاة السلفية في الجزائر بل وفي العالم. ونريد في هذا المقام أن نُعلم الشيخ فركوس وإخواننا السلفيين إن كانوا لا يعلمون بأن الحكم على الأشاعرة والماتريدية والأحزاب السياسية والجماعات الدعوية بأنهم مبتدعة وأهل أهواء وأن مصيرهم في الآخرة دخول النار كمصير الاثنين وسبعين فرقة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يضرهم ولا يغير من حقيقتهم في شيء ذلك لأن حكمهم في الآخرة سيكون بحسب ما يعلمه الله منهم وليس بحسب ما حكم السلفيون عليهم وما يعتقدونه فيهم بل الله عزّ وجلّ هو من سيفصل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه مع السلفيين في بعض العقائد أو العبادات أو المعاملات كما قال تعالى (وليبيّنّن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) النحل 92 ولقوله أيضا (ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) آل عمران 55. وللأسف ينتهج دعاة السلفية التضليل والتبديع كوسيلة أو أسلوب يعتقدونه شرعيا وناجعا لحمل المخالفين لهم على مراجعة أفكارهم وعقائدهم وسلوكياتهم والحق أن هذا الأسلوب لا يأتي في الغالب بما يرمون إليه بل ربما زاد من تعصب المخطئين لخطئهم. والذي نراه أن هذا الأسلوب غير شرعي وأبعد ما يكون عما أرشد إليه القرآن عند المناظرة والمحاججة بل وحتى عند محاججة الكفار وهم الذين الاختلاف معهم هو اختلاف تضاد بين كفر وإيمان. فقد أمر الله رسوله الكريم وهو أول المسلمين أن يخاطب الكفار بقوله لهم (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سبأ 24. فأرشد الله رسوله لهذه الطريقة في نقاشه ومجادلته الكفار، وهي طريقة تحمل الإنصاف في الحجة كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب، فهذا أسلوب لا يترك لصاحب معتقدات وأفكار معينة موجب للتعصب لها بل سيدفعه للنظر في أدلة وحجج التي سيقت لبيان خطإ معتقداته. والإنسان لا يغير ما يعتقده إلا تسليمه وقبوله من داخل نفسه بأدلة تُبطل أو تُضعف أدلته التي بنى عليه معتقده وليس بمعاقبته جسديا أو مالية أو نفسيا كشتمه أو وصفه بالضلال والابتداع. وعلى السلفيين أن يدركوا أن تضليل المخطئين عندما يكون خطأهم ناتج عن اجتهاد معذورين فيه غير مقبول ولا يصح بل عليهم أن يعلموا أن مبدأ التضليل نفسه هو من سلوك وتصرفات الكفار وقد مارسوه ضد المؤمنين فقال تعالى عنهم (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون) سورة المطففين الآيات من 29 إلى 32. فحري بالسلفيين ترك هذا الأسلوب في معاملتهم ونظرتهم للأشاعرة والماتريدية. والذي نراه واجبا هو أن يراجعوا منظومتهم السلوكية تجاه الجماعات التي بدعوها وجعلوها من أهل الأهواء وهي منظومة تحوي قائمة طويلة من المعاملات من وضع واجتهاد علماء بعضهم يحمل فائضا من الكراهية نحو إخوانه من المسلمين ولم يراعوا لهم حتى حقوق الإسلام. أليس قول الفضيل بن عياض إن صح والذي رواه عنه البربهاري في كتابه السنة (من تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم) أو قوله (من أحب صاحب بدعة فقد أحبط الله عمله) مما يجب تكذيب قائله رغم كونه من السلف رضي الله عنهم. أليس من الخطورة بمكان أن يحرّم السلفيون زيارة من بدعوهم من أهل السنة حتى في حال مرضهم مع أنه حق لهم من حقوق الإسلام كما ذهب لذلك الشيخ الفوزان في رسالته "تعريف البدعة" قائلا (تحرم زيارة المبتدع ومجالسته)، أليس خطير أن يفتى أحدهم بعدم التفريق بين البدعة الكبيرة التي هي من شعار الفرق الضالة والصغيرة التي قد يفعلها السني ومعاملة الاثنين نفس المعاملة قال الشيخ صالح آل الشيح في شرح لمعة الاعتقاد (فالدخول مع المبتدعة ومساكنتهم، سواء كانت بدعة صغيرة أو كبيرة، والسكوت عن ذلك وعدم هجرانهم والاستئناس لهم وعدم رفع الرأس بحالهم مع بدعهم، هذا من حال أهل الضلال). أليس خطير عدم قبول شهاداتهم كما نقل ابن عبد البر عن محمد بن خويز منداد قوله في كتابه "الخلاف" له (فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته). أليس خطير ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية من دعوته لمعاقبة الفقير المظهر لبدعة وقد تكون صغيرة كأن تكون في الأذكار بحرمانه من الزكاة رغم أنها حقه بحكم الإسلام فقال (ومن كان من هؤلاء منافقا أو مظهرا لبدعة تخالف الكتاب والسنة من بدع الاعتقادات والعبادات فإنه مستحق للعقوبة ومن عقوبته أن يحرم حتى يتوب). وقد يكون التأثير السلبي لمواقف السلفيين من الذين بدعوهم بحق أو من دون يتجلى في العلاقات بين الأفراد والجماعات المنتمين للمجموعة الوطنية والتي كان الفضل لله ثم للشهداء لوجودها وتحققها في بلدنا الجزائر. ثم ألا يحق لأهل السنة من الأشاعرة والماتريدية وكل الجماعات والأحزاب السياسية والدعوية والخيرية والصوفية والزوايا أن يخافوا على أنفسهم من القمع والعقوبات التي سيوقعها عليهم السلفيون في حال توليهم سلطة في بلد أو كانت لهم قوة ومنعة بحكم أنهم مبتدعة في نظرهم والمبتدعة يعاملون بهذا المنطق عند الشيخ فركوس عندما قال (أمّا التعاملُ مع أهل البِدْعَةِ فيختلف المقامُ باختلاف حال الضعف وحال القوة،…. أمّا إذا كان أهل السُّنَّة لهم الشوكة والقوَّة فينبغي قمع البدع بما يوجبه الشرعُ من ضوابطَ بالغِلظة والشِّدَّة والهجر) فتوى رقم 258 في موقعه الرسمي على الانترنت.