لا يجوز العمل بالحديث قبل التأكد من صحته وأصحاب هذه الطريقة (التصفية والتربية) يرون أنّه لا يجوز العمل بالأحاديث المروية عن النّبي قبل التأكّد من صحتها عنه، وذلك حتّى لا نكون من الذين يحتجّون بالباطل وهم لا يشعرون، وقد قال "كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمع" رواه مسلم. * * * قال ابن حبّان رحمه الله "في هذا الخبر زجر للمرء أن يحدّث بكلّ ما سمع حتّى يعلم علم اليقين صحّته". * هذا وقد بين العلماء رحمهم الله بأنّه لا يجوز لأيّ مسلم مهما كان علمه الشرعي أن يحتجّ بحديث من غير علم بحاله وحال روّاته. * قال الحافظ ابن حجر رحمه الله "سبيل من أراد أن يحتجّ بحديث من السنن أو بأحاديث من المسانيد واحد، إذ جميع ذلك لم يشترط من جمعه الصحّة ولا الحسن خاصّة، فهذا المحتجّ إن لم يكن متمكّن لمعرفة الصحيح من غيره، فليس له أن يحتجّ بحديث من السنن من غير أن ينظر في إسناده وحال روّاته، كما أنّه ليس له أن يحتجّ بحديث من المسانيد حتّى يحيط علما بذلك. * وإن كان غير متأهّل لدرك ذلك فسبيله أن ينظر في الحديث إن كان قد خُرّج في الصحيحين أو صرّح أحد الأئمّة بصحّته فله أن يقلّد في ذلك وإن لم يجد أحدا صحّحه ولا حسّنه فماله أن يقدم على الاحتجاج به فيكون كحاطب ليل يحتجّ بالباطل وهو لا يشعر". * وقال الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري رحمه الله "طريق من أراد الاحتجاج بحديث من السنن أو المسانيد: أنه إن كان متأهلا لمعرفة ما يحتجّ به من غيره فلا يحتج به حتى ينظر في اتصال سنده وحال رواته، وإلا فإنّ وجد أحدا من الأئمّة صححه أو حسنه فله تقليده وإلاّ فلا يُحتج به" * وقال العلاّمة الشوكاني رحمه الله "أمّا بقية السنن والمسانيد التي لم يلتزم مصنفوها الصحّة فما وقع التصريح بصحّته أو حسنه منهم أو من غيرهم جاز العمل به، وما وقع التصريح كذلك بضعفه لا يجوز العمل به، وما أطلقوه ولم يتكلّموا عليه ولا تكلّم عليه غيرهم لم يجز العمل به إلاّ بعد البحث عن حاله إن كان الباحث أهلا لذلك". * وقال العلامة الطاهر الجزائري الدمشقي رحمه الله "وإن كان مريد الاحتجاج بحديث منها غير متأهل لتمييز الصحيح من غيره فسبيله أن يبحث عن حال ذلك في كلام الأئمة فإن وجد أحدا منهم صححه أو حسنه فله أن يقلده وإن لم يجد ذلك فليس له أن يقدم على الاحتجاج به إذ في الاحتجاج به خطر عظيم". * وقال العلامة الألباني رحمه الله "وقد صرّح النووي رحمه الله بأنّ من لم يعرف ضعف الحديث لا يحلّ له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا أو بسؤال أهل العلم إن لم يكن عارفا". * * حكم العمل بأحاديث الآحاد * إنّ العمل بأحاديث الآحاد من دون تفريق بين العقائد والأحكام يُعتبر عند أهل السنة والجماعة من المعالم المهمّة التي تفرّق بين أهل الهدى والضلال، وهو ركن من أركان الاعتصام بالسنّة. * قال ابن أبي العز رحمه الله "وخبر الواحد إذا تلقته الأمّة بالقبول عملا به وتصديقا له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمّة وهو أحد قسمي المتواتر ولم يكن بين سلف الأمّة في ذلك نزاع"، * وقال الإمام السفاريني رحمه الله "يُعمل بخبر الآحاد في أصول الدين وحكى بن عبد البر الإجماع على ذلك". * وقال الإمام ابن القيم رحمه الله "وأمَّا المقام الثامن: وهو انعقادُ الإجماع المعلوم المتيقَّن على قَبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها، فهذا لا يَشُكُّ فيه مَنْ له أقلُّ خِبرة بالمنقول، فإنَّ الصحابة هم الذين رَوَوْا هذه الأحاديثَ، وتلقَّاها بعضُهم عن بعضٍ بالقَبول، ولم يُنكرها أحدٌ منهم على مَن رواها، ثمَّ تلقَّاها عنهم جميعُ التابعين مِنْ أَوَّلهم إلى آخرهم، ومَن سمعها منهم تلقَّاها بالقَبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقَّاها عن التابعين كذلك، وكذلك تابِعُوا التابعين مع التابعين، وهذا أمرٌ يعلمه ضرورةً أهلُ الحديث كما يعلمون عدالةَ الصحابة وصِدقَهم وأمانتَهم ونقلَهم ذلك عن نبيِّهم صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كنقلهم الوضوء والغُسل من الجنابة، وأعدادَ الصلوات وأوقاتها، ونقلَ الأذان والتشهُّد، والجمعة والعيدين، فإنَّ الذين نقلوا هذا هُمُ الذين نقلوا أحاديثَ الصِّفات، فإِنْ جاز عليهم الخطأُ والكذبُ في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها ممَّا ذكرناه، وحينئذٍ فلا وُثُوقَ لنا بشيءٍ نُقِلَ عن نبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وهذا انسلاخٌ من الدِّين والعلم والعقل". * وقال الشيخ محمد علي فركوس "اعلم أنَّ السلف الصالحَ أجمعوا على أَنَّ خبرَ الواحد حُجَّةٌ في الأحكام والعقائد، فلو كان أيُّ دليلٍ قطعيٍّ يُثبت أنَّ العقيدة لا يجوز إقرارُها بالاستناد إلى خبرِ الواحد كما يزعمون لصرَّح الصحابة رضي الله عنهم بذلك، بل بالعكس عملوا بالأدلة الموجِبة للعمل بخبر الواحد عامَّة مُطلقة مِن غير تفريقٍ بين الأحكام والعقائد، ولا بين مختلف الأبواب والمسائل؛ لأنها لم تُقَيَّدْ بمسألةٍ أو شرطٍ، والتفريقُ بينهما قولٌ مُحْدَثٌ لا أصلَ له في الشريعة، ولم يعرفه الصحابة رضي الله عنهم ولا أحدٌ من التابعين، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من أئمَّة الإسلام والدِّين، وإنما هو معروفٌ عن رؤوس أهل البدع ومَن تبعهم، ثمَّ إنَّ القول بقصر خبر الواحد على الأحكام باطلٌ من جهة أنَّ الحكم الشرعي في حَدِّ ذاته كما يجب اتباعه والأخذ به يجب اعتقاده أيضًا إذ يجب اعتقادُ وجوبِ الواجبات وحُرمة المحرَّمات، واستحبابِ المستحبَّات، وكراهةِ المكروهات، وإباحةِ المباحات، وهذا أصلٌ من أصول الدِّين، إذ مَن أنكر حُكمًا شرعيًّا معلومًا من الدِّين بالضرورة كفر كفرًا مخرجًا من الملة، فثبتت بدعيةُ هذا القول في قصر حُجِّية خبرِ الواحد على الأحكام دون العقائد، وهو مردودٌ بنصِّ قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: "إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ" قال ابنُ عبد البرِّ رحمه الله "ليس في الاعتقاد كُلِّه في صفات الله وأسمائه إلاَّ ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صَحَّ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو أجمعت عليه الأُمَّة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كُلِّه أو نحوه يُسلَّم له ولا يناظر فيه". * هذا، ومن المعلوم أنَّ العقيدة هي من أولويات دعوة الرسل، وقد كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يَبعث آحاد الصحابة رضي الله عنهم إلى مختلف الأمصار والبلدان ليُعَلِّموا الناسَ دِينَهم، وبالدرجة الأولى التوحيد، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لمعاذ رضي الله عنه: "إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّل مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله"، وفي رواية "فَادْعُهُمْ إِلَى شَّهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهِ.." الحديث وقد اكتفى صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بإرسال معاذٍ لوحده، وكذلك فَعَلَ مع عليٍّ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم في نَوبات مختلفةٍ، فكان دليلاً صريحًا على أنَّ العقيدة تَثبُتُ بخبر الواحد كما تثبت في الأحكام بلا تفريقٍ... والعلمُ عند اللهِ تعالى * تقديم العقل على النقل والهوى على الشرع: * إنّ تقديم العقل على الشرع، سواء في تصحيح الحديث وتضعيفه، أو بتأويله وتحريفه عن معناه الظاهر من دون دليل لهي طريقة أهل البدع والأهواء، فهم يجعلون الشريعة ما وافقت أهواءهم فإذا خالفتها نبذوها وراء ظهورهم وتحيّلوا في ردّها وردّ دلالتها. * قال العلاّمة ابن القيم رحمه الله "أمّا المتعصبون فإنّهم عكسوا القضية ونظروا في السنّة فما وافق أقوالهم منها قبلوه وما خالفها تحيّلوا في ردّه أو ردّ دلالته". * وقال الشاطبي رحمه الله "سمّي أهل البدع أهل الأهواء لأنّهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلّة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتّى يصدروا عنها، بل قدّموا أهواءهم واعتمدوا على أرائهم ثمّ جعلوا الأدلّة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك". * وقال الشيخ أبو المظفر السمعاني رحمه الله "وأمّا سائر الفرق فطلبوا الدّين لا بطريقه لأنّهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وأرائهم فطلبوا الدّين من قِبَلِه، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنّة عرضوه على معيار عقولهم فإن استقام قبلوه وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردّوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرّفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستنكرة، فحادوا عن الحقّ وزاغوا عنه ونبذوا الدّين وراء ظهورهم وجعلوا السنّة تحت أقدامهم تعالى الله عمّا يصفون "وقال ابن أبي العز رحمه الله" كلّ فريق من أرباب البدع يعرض النّصوص على بدعته وما ظنّه معقولا، فما وافقه قال إنّه محكم وقبله واحتجّ به، وما خالفه قال إنّه متشابه ثمّ ردّه وسمّى ردّه تفويضا أو حرّفه وسمّى تحريفه تأويلا فلذلك اشتد إنكار أهل السنّة عليهم. * وطريق أهل السنّة أن لا يعدلوا عن النّص الصحيح ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان" * من علامة أهل البدع الطعن في علماء السنّة: * وتمثل طعنهم في نبز علماء السنّة بألقاب عُرفت عن مبتدعة أسلافهم وكان من أهم هذه الألقاب التي أُطلقت عليهم زورا "الحشوية" و"الوهابية" وقد ذَكَرتُ من قبل في الفصل الثالث من هذا الباب أنّ أحدهم يُدعي شمس الدين بوروبي (مفتي الجرائد) قد رفع عقيرته هذه الأيام وتطاول على علماء السنة، فقال عن الإمام البربهاري رحمه الله من غير استحياء ولا تردد "ما هو إلاّ ضال مضل" ووصف أهل السنة أو أهل الحديث بأنهم حشوية وأهل ضلال وباطل، ونحن بدورنا نبين ما قاله أهل العلم في الإمام البربهاري وفي هذين اللفظتين "الحشوية" و"الوهابية" بشيء من التفصيل حتي يزول الإشكال ويتضح المطلوب. * الإمام البربهاري رحمه الله: هو أبو محمد الحسن بن علي بن خلف شيخ الحنابلة بالعراق في عصره، كان محدثا، حافظا، فقيها، توفي سنة 329 من مصنفاته "شرح السنة" قال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله "العالم الزاهد الفقيه الحنبلي الواعظ صاحب المروزي وسهلا التستري... وكان شديدا على أهل البدع والمعاصي وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة". * وقال عنه الإمام الذهبي رحمه الله "أبو محمد البربهاري الفقيه العابد، شيخ الحنابلة بالعراق، كان شديدا على المبتدعة له صيت عند السلطان وجلالة، وكان عارفا بالمذهب أصولا وفروعا أخذ عن المروذي وصحب سهل بن عبد الله التستري". * وقال أيضا رحمه الله "شيخ الحنابلة القدوة الإمام الفقيه، كان قوالا بالحق داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم". * وقال ابن أبي يعلي رحمه الله "شيخ الطائفة في وقته، ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع، والمباينة لهم باليد واللسان، وكان له صيت عند السلطان، وقدم عند الأصحاب، وكان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ للأصول المتقنين، والثقات الْمُؤْمنين". * وقال الصفدي رحمه الله "الحسن بن علي بن خلف البربهاري شيخ الحنابلة ومقدمهم الفقيه العابد. كان شديداً على أهل البدع.... وكان عارفاً بالمذهب أصولاً وفروعاً". * وقال أبو الحسين بن الفراء رحمه الله "كان للبربهاري مجالدات ومقامات في الدين كبيرة، وكان المخالفون يغيظون قلب السلطان عليه... ثم لم تَزَل المبتدعة يوحشوا قلب الراضي بالله عليه إلى أن نودي في بغداد أن لا يجتمع من أصحاب البربهاري نفسان. فاختفى البربهاري إلى أن توفي مستترا". * أظن أنك بعد اطلاعك على هذه الأقوال التي نقلتها عن هؤلاء الأئمة الكبار تدرك تمام الإدراك أنّ الإمام البربهاري رحمه الله هو إمام السنة في زمانه بلا منازع، وأنّ من رماه بالضلال هو أولا به منه. بل قال الإمام ابن بطة رحمه الله" إذا رأيت الرجل البغدادي يحب أبا الحسن بن بشار وأبا محمد بن البربهاري فاعلم أنه صاحب سنة"، وتَطَاوُلُ شمس الدين على أهل العلم والطعن فيهم هو من صفات المبتدعة التي حذّر منها العلماء قال الإمام أبي حاتم الرّازي رحمه الله "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر" ولسنا ندري لماذا ضَلَّلَه هذا الدَعيُّ الإمّعة "شمس الدين".؟ أَلأنّه كان من أغلظ الناس علي المبتدعة المؤوّلة، وخاصّة أنّه "البربهاري" لا يُعرف إلا من خلال كتابه "شرح السنة" الذي قرر فيه منهج أهل السنة والجماعة في النواحي الاعتقادية سواء تعلقت بذات الله وأسمائه وصفاته وبمسائل الإيمان. قال الشيخ محمد علي فركوس "ولا شك أنّ من يطعن في منهج أهل السنة والجماعة وعقيدتهم ويتحامل عليهم إلاّ إذا كان مطبوعا بعقيدة أهل الأهواء والبدع، لأنّ: "من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر"، ولا يصدر هذا إلاّ من جاهل أو معاند حاقد، لذلك ينبغي إظهار السنة وتعريف المسلمين بها وقمع البدعة بما يوجبه الشرع من ضوابط وعدم الاشتغال بسفاسف الأمور وأهلها لدنو منزلتهم".