قبل أن يكون الإمام محمد بشير الإبراهيمي مفكراً مصلحاً وسياسياً محنكاً؛كان أديباً بليغاً، وشاعراً، وخطيباً مفوهاً، عالماً فقيهاً في العربية، خبيراً بأسرارها، متضلعاً في آدابها وفنونها، إلى جانب علمه بالتفسير وبالحديث وعلومه وبالفقه وأصوله، وقد حاز الإبراهيمي، بما امتلك من علم، تقدير كبار رجال الفكر الذين عرفوه واحتكّوا به، فهو عندهم العالِم اللغويّ والأديب الذي له أسلوب يضارع أساليب فحول الكتّاب، فاستحقّ بذلك ثناء العلماء،كشيخ الشّام محمد بهجت البيطار الذي رآه بمثابة دائرة معارف، وإعجاب الطّلاب كجميل صليبا الذي كشف في مذكراته عن اغتباط الطلبة بدروسه، ذات الأسلوب العذب عذوبة الماء الزّلال. وهذه المكانة الجليلة لشيخ العربية في نفوس أهل العلم حملت كذلك الشعراء على الإشادة بخصاله ومحامده، فشهد له محمد العيد آل خليفةبالإمارة في مجال الشعر، أمّا رفيق دربه وصنوه في الأعمال الجليلة: العلاّمة عبد الحميد بن باديس فيجعله فخر علماء الجزائر ويشهد له بالإمارة في مجال الكتابة. وإنّ المتتبع لجهود الإبراهيمي يجد أنّه أسهم في إثراء الحياة الأدبية عن طريق العديد من الآثار التي خلّفها وراءه في شتى المجالات، فقد خلَّف إنتاجاً غزيراً يشهد أنه، بحق، مدرسة كاملة، بل فلتة من فلتات هذا الزمان، كما كان ينعته كبار المفكرين والأدباء العرب والمسلمين ، ومن آثاره «عيون البصائر»، و«الاطراد والشذوذ في اللغة» و«أسرار الضمائر العربية» و«التسمية بالمصدر» و«كاهنة أوراس» و«رسالة العنب» و«فصيح العربية من العامية الجزائرية» و«أرجوزة» في 36 ألف من أبيات الشعر، ضمّنها تقاليد الشعب الجزائري وعاداته، وأما مقالاته، فإنها قد جمعت فكونت خمس مجلدات قاربت صفحاتها 2500 صفحة. أما أسلوبه في الكتابة، فهو جاحظ عصره، وبديع زمانه، مما جعله بحق، معجزة من معجزات الثقافة العربية الإسلامية في القرن العشرين، ونماذجه في أسلوبه البليغ الأديب في مجالات مختلفة ؛ تؤكد تمكّنه من أسرار البيان العربي،ومن أهم هذه النماذج: أ أسس الكتابة الأدبية الراقية لدى الإبراهيمي: تتمثل أسس الكتابة الأدبية للإبراهيمي في أمور منها: رُقي الألفاظ والمعاني والأساليب، ولا يتأتَّى هذا الرُّقي في نسيج الكتابة الأدبية للكاتب من الكتاب، حتى يكون ألمَّ على محفوظ غزير من النصوص الأدبية راقٍ، إذ لا يعقل أن ينبُغ كاتب كبير وهو لا يحفظ نصوصاً أدبية كبيرة، وجمَّاع الشأن في المسألة هو ما يطلق عليه الشيخ «معرِض العربية الراقية». وقد تمثَّل الإبراهيمي اللغة معرضاً قائماً في سُوق أنيقة تُعرض فيها كرائم الألفاظ، فحدَّد مواصفات هذه السُّوق الأنيقة التي ليست كأيِّ شيء من الأسواق، تُعرض فيها أي بضاعة من البضائع المُزجاة، بل هي سوق تُجلب إليها كرائم ألفاظ العربية المؤتنفة، وتُساق إليها عقائل المفردات المؤتلفة. نجد الشيخ الإبراهيمي يصطنع مصطلحين اثنين في هذا المقام وهما: المأنوس والغريب، فأمَّا الغريب فهو معروف لدى الناس، وأما المأنوس فمصطلح من مصطلحات الشيخ، فاللفظ المأنوس هو الذي يستأنس له القرَّاء أو المتلقون، فتقبله أذواقُهم، ولا تنبو عنه أسماعه. ب النزعة الخطابية: إن طغيان الانفعال الذي هو انعكاس للصدق يدفع الإبراهيمي أحياناً إلى استخدام أدوات الخطابة حتى وهو يكتب مقالة أو يلقي محاضرة، ومن ثم يلحظ أنَّ بعض تلك المقالات تحوَّلت فعلاً إلى خطب حماسية لاهبة يحشد لها الكاتب كل الأدوات البلاغية المجسِّدة لهذه النزعة، وقد يتجلَّى ذلك في مواقف تستدعي الحزم والصرامة، وتتطلب الحسم والبتر، كما جاء ذلك في مقالاته عن العرب وفلسطين، أو في مقالاته عن دور الأحزاب المتناطحة في جزائر ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن يتأمل مقاله الذي يناجي فيه الجزائر، وهو بعيد في ديار الغربة، يدرك أن الشاعرية قد تتحرَّك في قطعة من النثر الفني وتبلغ من النفس ما تبلغه بعض الأبيات الموزونة المقفاه. إن تلك المناجاة تعبر بصدق عن نفسية الإبراهيمي الذي خُلق شاعراً رقيق الإحساس. إن أجلّ ما يلفت النظر في كتابات الإبراهيمي هو جرأته على مناقشة كل ما يراه صالحاً للمناقشة، مبدياً رأيه في كل ما يمكن إبداء الرأي فيه، حيث وقف في مهرجان أحمد شوقي في أكتوبر 1958م أمام الأدباء العرب ليقول رأيه الصريح في شعر شوقي، لا تثنيه سمعة شوقي وصداه عن قول كلمة الحق، التي رأى واجبه الوطني يملي عليه قولها، ولم تشغله كلمة الحق هذه عن إشارة بمكانة شوقي وفضله على الإسلام والعربية. ج التهكُّم والسخرية: من أبرز الخصائص التي تميَّز بها أسلوب الإبراهيمي ما يشيع في تعابيره من سخرية وتهكُّم، لاذعين حيناً مقبولين حيناً آخر، وتلك سمة عُرفت بها الكتابة عند كبار الأدباء قديماً وحديثاً، فلم يكن يستخدم هذا اللون من التعبير في جميع ما يكتب، وإنما هو لون يتخيره عندما يرى أن المقام يفرضه والظروف تقتضيه، سواء أكان ذلك متعلِّقاً بمناقشة قضية من القضايا أم بانتقاد شخصية من الشخصيات، حيث كان لاذع التهكم مريره، بارع السخرية رائعها، وهذه الخاصية عند الإبراهيمي، تتوزَّعها مقالاته الطويلة، ولا سيما تلك التي خصَّصها للتحدُّث عن الاستعمار الفرنسي وأعماله ورجاله، أو تلك التي يتحدث فيها عن مواقف مناوئي جمعية العلماء وغيرها، أو تلك التي يصف فيها الواقع المزري تجاه قضية فلسطين. إن التهكُّم في مثل تلك المواقف يمتزج بالألم، والسخرية مبطنة بالأسى والأسف، ولعل خير مثال على ذلك: مقطوعة يأسى فيها حزيناً لمصير فلسطين التي ضاعت بين حكام فاسدين، ورعية متخاذلة، وعدوٍّ شرس لدود، وذلك حيث يوظف القرآن الكريم، والأمثال العربية تصويراً، وإيقاعاً في قوله: ما أضاع فلسطين إلا العرب، وقد جاءتهم النذر فتمارَوْا بها، ثمَّ حق الأمر وهو غاوون فاندهشوا، ثمَّ وقعت الواقعة فأبلسواتعمد خطباؤهم إلى الخُطب ينمقونها وشعراؤهم إلى القصائد يزوقونها، وساساتهم إلى الدعاوي يلفِّقونها، وعامتهم إلى الخرافات يصدِّقونها، بينما عمد ملوكهم إلى الأمداد يعوقونها وإلى الأهواء ينعقونها، وقُضي الأمر وأوسعناهم سبَّاً وراحوا بالإبل، وبعد أن كنا أهل فلسطين أصبحنا نقول ما قالته الجهضمية في مكة: بل نحن كنَّا أهلها. ومن تهكُّمه المرير المضحك، تعليقه على أمسية شعرية سمع فيها بعض الشعراء الذين يدَّعون التجديد، وهم يقرؤون شعراً خرجوا فيه عن اللغة والوزن والأخلاق، ويبدو أن ذلك منه كان أواخر الخمسينيات أي مع البدايات الأولى لظهور مثل هذا الشعر، وبالقدر الذي كان تعليقه تعبيراً عن الازدراء والمَقت ؛ بالقدر الذي كان تعبيراً عن أصالة عربية إسلامية عميقة الجذور، دفعته إلى أن يرفض رفضاً مطلقاً هذا النوع من الشعر الذي رآه دخيلاً غريباً، ولم يجد له تعريفاً ولا تحديداً سوى قوله: "إن اللغة العربية على سعتها مفرداتها ناقصة لأنَّنا لا نجد فيها الكلمة أو الصفة التي يمكن أن نصف بها أمثال هؤلاء الشعراء المجدِّدين، إلا أن لي من عروبتي وغيرتي على لغتي ما يشفع لي بالاشتقاق". د أثر القرآن الكريم في نثره الفني: ارتكزت الثقافة العربية عند الإبراهيمي على قاعدة القرآن الكريم الذي حفظه كلَّه عن ظهر قلب وهو في التاسعة عن عمره، ودأب على تدارسه والتمعُّن في معانيه، وتذوُّق بيانه طول عمره، فظهر أثر ذلك كله في نفسه، وقلبه، وفكره، ولسانه، فهو بالنسبة إليه المورد والمصدر، منه يستقي وإليه يعود. ولقد دلَّت كتاباته عن القرآن على إدراك عميق لأسراره، وفهم دقيق لمعانيه، وتذوُّق قلَّ نظيره لإعجازه، ولعلَّ هذه الخاصية هي التي جعلت ابن باديس يدعوه إلى أن يخلُف رشيد رضا في إكمال تفسير القرآن على طريقة المنار. وكان الإبراهيمي يوصي الشعب الجزائري بالعيش مع القرآن في هذا المجال، قال: أحيوا قرآنكم تحيوا به، حقِّقوه يتحقق وجودكم به، أفيضوا من أسراره على سرائركم، ومن ادابه على نفوسكم، ومن حكمه على قولكم، تكونوا به أطباء، ويكن بكم دواء. إن أثر القرآن الكريم في الأدب الإبراهيمي يمس الظواهر الفنية والمعنوية عنده، سواء جانب التعبير، أو جانب التصوير، أو جانب التنغيم،حين يرتكز في تكوين الصورة التعبيرية إلى القرآن ؛ يفعل ذلك عن تدبر لمعناها وكل ما توحي به من أبعاد، ظلالاً وصوراً وإيحاءات فنية رائعة، ولا يسوقها كما يفعل بعض الكتَّاب تبياناً أو توضيحاً لا يتعدَّى المعنى المجرَّد الدلالي للجملة. ولنأخذ لذلك مثلاً هذه التعبيرات المستوحاة من القرآن، قال: هذا الشَّمال قد أصبح أهله كأصحاب الشِّمال في سَموم من الاستعمار وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم، أفسد الاستعمار أخلاقهم، ووهن عزائمهم، وضرب بينهم وبين العلم بسور ليس له باب. وهو لكي يصف اتجاه الصحافة الاستعمارية وكتاباتها التي تناصر سياسة الحيف والظلم ضدَّ الجزائريين؛ لجأ إلى آيات قرآنية تصوِّر أعمال المنافقين، أو هي تصوِّر مصير الكفَّار يوم الجزاء والحساب، فيقول: وأما الصحافة في الجزائر، فإنَّها استعمارية خالصة لحماً ودماً، تعيش على ماله، وتسير بتوجيهه.. تأمر في حق الأمة الجزائرية بالمنكر، وتنهى عن المعروف وتضع الموازين البخس لصالحها.. ولا تقنع بما يقع من الحكام من ضغط وزجر وإعنات، بل تعدُّه تقصيراً منهم في الواجب، ولذلك كلِّه تراها لا تدعو ثبوراً واحداً، بل تدعو ثبوراً كثيراً. ه . مكانته الأدبية: إن مكانة الإبراهيمي الأدبية لا ينظر إليها من خلال منظور ضيق لا يتعدَّى الجزائر أو المغرب العربي، بل مكانته تتجاوز هذه الحدود إلى الوطن العربي والإسلامي بمحيطه الواسع، ويفرض اسمه ضمن الأدباء المشهورين الذين عرفهم العصر الحديث. وقد كان الأدباء في المشرق العربي يطلقون عليه الأستاذ الإمام، اعترافاً منهم بفضله وأدبه، وسعة علمه. وقلة هم أولئك الذين حَظُوا بمثل هذه المكانة، ففي مصر كان له معجبون من الأدباء والعلماء، من أمثال الفيلسوف منصور فهمي، وإبراهيم مدكور، وكامل كيلاني، وبنت الشاطأئ، والغزالي وغيرهم، وقد بلغ بهم الإعجاب به أن بويع بإمارة البيان، كما بويع من قبل أحمد شوقي بإمارة الشعر. كان الشيخ الإبراهيمي يجمع الأدباء والعلماء إلى ندواته ومحاضراتهفيالقاهرة؛فبجذبهم إليه بعلمه وأدبه وقوَّة شخصيته، ممَّا جعل اللقاء به كما يقول الشيخ الغزالي: "مصدر متعة أدبية وعلمية تجعل أدباء القاهرة وعلماءَها يُهرعون إليه ويتزاحمون عليه". وقد توِّجت هذه المكانة باعتراف العضوية له في مجمع الخالدين بالقاهرة، كما كان عضواً مراسلاً لمجمعي اللغة في كل من دمشق وبغداد، وكان مرجع العلم والأدب في هذه المجامع، التي تضُم بين جدرانها جلَّة العلماء وصفوة الأدباء في الوطن العربي. ممَّا جعل الدكتور إبراهيم مدكور أحد الأعضاء البارزين بالمجمع اللغوي بالقاهرة يقول عنه: كنَّا نعول التعويل كلَّه على مساهمته والإفادة من علمه وفضله. وفي دمشق ترك صيتاً ذائعاً، وإشادة بالغة، حيث كان يشد الإعجاب ما بين مكتب عنبر، والمدرسة السلطانية، والجامع الأموي، وتخرج على يده من يعد اليوم من مشاهير الأدباء والعلماء، وكان طلبته يعجبون بسعة علمه، وقوَّة ذاكرته، واستقامة منهجه. ولم يقلَّ إعجاب أدباء العراق به عن إعجاب الأدباء به في دمشق أو مصر، ويكون الإعجاب منصبّاً على سعة العلم، وفصاحة اللسان، وشمولية الاطلاع على الواقع ومسايرته. وهذه الخصائص ينوه جمال الدين الأتاسي بها حين يقول: ونحن في العراق عزز عواطفنا وألهب أحاسيسنا في محاضراته وأحاديثه، لم نشهد أديباً أو داعية بمقدراته، وطول نفسه، وإجادته لفن القول، وسعة اطلاعه على ألاعيب الاستعمار، وكان صادق الحب لوطنه ودينه. المراجع: 1. أحمدطالب الإبراهيمي: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1997م. 2. علي محمد الصَّلاَّبي: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، ج3، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 1438ه – 2017م. 3. محمد عمارة: الشيخ البشير الإبراهيمي، دار السلام للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2001م. 4. الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بأقلام معاصريه، شركة دار الأمة، الطبعة الأولى-وزارة الثقافة والسّياحة- الجزائر 1985م. والطبعة الثانية-دار الأمة، الجزائر 2007م. 5. الملتقى الدولي للإمام محمّد البشير الإبراهيمي بمناسبة الذكرى الأربعين لوفاته، الجزائر قصر الثقافة في 13 و14 ربيع الثاني 1426 ه، الموافق 22 و23 مايو 2005م.