نكهة من معركة الجزائر، استرجعها أول أمس ركح باشطارزي وهو يشهد عودة "حسان طيرو" من سجل 63، تحولت صور الأبيض والأسود إلى حركات ملونة، الوجوه والملامح ليست نفسها، الجمهور الذي اكتظت به القاعة كذلك، والديكور أيضا... "حسان طيرو" طبعة مصطفى عياد وجمعية أصدقاء رويشد، لم يعد لوحده فارغ اليدين، بل كان حاملا لألبوم صور، تعود بنا نحو التاريخ الأكثر إثارة في حياة القصبة التي تعج بأساطير الفدائيين والمجاهدين، وكذا نحو رمزيات التقطت من هنا وهناك عبر رحلة زمنية شقها حسان قبل أن يحط في دار بشطارزي ثلاثين سنة من بعد. وجدت مسرحية "حسان طيرو " التي أعاد صياغتها مصطفى عياد معطيات جديدة غيرت الكثير من المفاهيم، لعل أهمها مفهوم "الطيرو"(الإرهابي) التي لم يعد لها نفس المفهوم بين الأمس واليوم، فطالما استمتع المشاهد وهو يرى في شخصية "حسان طيرو"(طبعة رويشد) صورة البطل الساخر الذي يؤدي دور المنقذ رغما عنه لحماية جماعات الفدائيين في القصبة، حيث سيكتشف انه كان يخفي في عقر داره احد العناصر المهمة للجماعات الفدائية وبالتواطؤ مع زوجته زكية إبان أحداث إضراب الثمانية أيام، وبالتالي تورطه مع القوات العسكرية الاستعمارية التي كانت تتقفى أثار رؤوس جبهة التحرير في المنطقة، ما دفعه للتعاون معها كعميل أو ما يعرف آنذاك ب"بوشكارة" للوشي بكل أصحاب الحي المساندين للثورة من قريب أو من بعيد، رغم انه في النهاية يستسلم للأمر الواقع ويستدرك خطيئته في غرف التعذيب حيث يقاوم لحماية العناصر الفدائية قبل تغيير مواقعها داخل القصبة، هي تلك المشاهد التي لازالت تحرك عاطفة العاصميين حول أهم مقاومة عرفتها القصبة في تاريخها المعاصر، لدرجة أن الأثر بقي نفسه بالأمس مثل اليوم، نفس العاطفة ونحن أمام صور جوليو بونتكورفو، في" معركة الجزائر" أو تلك التي استلهمها الراحل "رويشد" من قصة المجاهد حسان بوجليلة في"حسان طيرو"، لكن مصطفى عياد (دور حسان)، ورغم انه بقي وفيا لطبعة والده ظهر في الطبعة الجديدة بملامح مغايرة تماما، ففي نهاية المطاف أليس ذلك الفنان الذي يبحث دائما في نفسه وفيما حوله، يقف مساءلا الحاضر في مستجدات رحيله من الماضي؟ هكذا كذلك" طيرو" الذي تفادى الحديث بلغة الخشب، كان واعيا بأنه يخاطب جمهورا آخرا، لم يعد غير ذلك الدور البطولي الساخر المختزل في شخصية واحدة، فهو تقاسم البطولة مع الجماعة والأفراد، الجماعة الممثلة في شعب أصبح يمتلك مفهوما آخر عن الإرهاب، فلم تعد ثورة التحرير لوحدها تحتكر سجل التاريخ، عياد استنسخ صورة طبق الأصل عن الخيبة على غرار المعاناة "شفت الشعب مسكين..." يقول بحسرة احد الفدائيين ( دور فؤاد زاهد ) أو مشهد نادل المقهى (دور ياسين زايدي) وهو يرى كيف يسلب منه "بوشكارة" عصفور "المقنين" دون قدرة على الاحتجاج "الحقرة" ببساطة تلك الكلمة التي لن تجد مفهومها في قاموس آخر، ملامح الحسرة هذه ألا تذكرنا بشيء ما؟ رمزية أخرى تتجلى بقوة في المسرحية، رحلة البحث عن إخماد ثورة موازية رؤوسها الكبيرة تظهر على لوحة الإعلانات بمركز التحقيق، ومن يكون غير عز الدين مجوبي، رويشد، أو مصطفى كاتب، أو سيراط بومدين الذي أراد عياد الاحتفال بذكرى وفاته على طريقته الخاصة، كلهم رؤوس هاربة من سجلات المسرح مستهدفة من طرف مستعمر رمزي آخر.. الفكاهة كان يجب أن تكون حاضرة فنحن أمام رصيد رويشد صاحب المواقف الساخرة واللقطات الأكثر إثارة في الكوميديا الجزائرية ويجدر الاعتراف أن مصطفى عياد كسب الرهان في تقديم نسخة طبق الأصل وهو يعول على فنانين من الواضح أنه تم انتقاهم لأهليتهم على أداءهم لأدوار" حسان طيرو" وإن كان بعضهم يعتلي الركح لأول مرة من بينهم الممثل سعيد حلمي، والوجه التلفزيوني -- فكلهم استجابوا لملامح وطبيعة شخصيات حسان طيرو، بل ذهبوا حتى إلى أداء دورين إلى أربعة ادوار، وسواء من الوجوه القديمة أو الجديدة، فتيحة بربار، تونس، ياسين زايدي وقائمة متنوعة، تحركوا كلهم في ديكور متواضع ومتناسق، مجسد في الأزقة الضيقة، المقهى موسيقى الشعبي تضفي في الهواء شيئا من النكهة العاصمية على غرار المؤثرات الصوتية والموسيقى الخاصة بالمسرحية( تلحين شركيت) التي لم تستجب مائة بالمائة للموضوع حيث لم ينجح المزج بين الهواء الشعبي والتحركات الفكاهية للموسيقى والتي كانت اقرب لعزف الو سترن. ومع ذلك فان طغيان الحس الفكاهي في نص رويشد حال دون التنبه لهذا الجانب، ناهيك عن ذلك تمكن فريق المسرحية من كسب الجمهور واستدراجه عاطفيا محافظا على تلك الوتيرة الحميمة من بداية إلى نهاية المسرحية بل وتفاعل معها أكثر في الختام التي تنتهي على صوت رويشد الذي ترك لنا صرخته التاريخية "تحيا الجزائر"، تلته تحية النجل مصطفى عياد واختتمت بمشهد الطفل وهو يقف على السطح حاملا العلم الوطني. من 63 نحو 2007، "حسان طيرو" التي أرادها عياد تكريما إلى كل من رمز ولمح إليهم في المسرحية، لبست ثوبا جديدا على أن يطوي صفحة من صفحات المسرح الجزائري التي سجلت المجد مثلما سجلت الخيبة والفشل، علي صفحة جديدة ستفتح ليراهن عليها الجيل المسرحي الحامل لمشعل الفن الرابع. فاطمة بارودي