يشكلون أكبر جيش من الموظفين تم إنتاجه خلال فترة الاضطرابات التي عرفتها البلاد، ففي مكان واحد، وعلى غير العادة، نكتشف وجود أكثر من شخص يمتهن هذه الوظيفة، بعضهم تعدى صيته فأصبح أهمّ من الوزير والمدير ومن الجمع الغفير... فنجده صاحب حل وربط في تحديد الوساطات وضبط المواعيد واستسهال المسائل والأزمات حتى تلك التي عجزت عنها نخبة المثقفين والإداريين من ذوي الخبرة والمعارف المتعددة... إلى درجة وصفهم بالحكومة الجديدة والنخبة السفلى لأنهم يعرفون كل شيء ولا يعرفون شيئا في نفس الوقت، إنهم البوابون، أو الحراس وأعوان الأمن! شهدت الجزائر خلال سنوات المحنة ونقص الأمن تناميا مخيفا لكثير من الوظائف الأمنية، وفي مقدمتها الحراس والبوابون وأعوان الأمن، وحتى وإن كنا لم نصل بعد إلى تلك الصورة التي قدمتها لنا السينما العربية بكثير من الكوميديا، وتحديدا عن (عمّو عبده البواب)، على اعتبار أن الجزائريين تعودوا على خدمة أنفسهم في العمارات دون تنسيق، فإن كثيرا من أصحاب العقارات والشركات لجأوا خلال السنوات الماضية إلى البحث عن أشخاص تتوفر فيهم القوة الجسدية والأمانة للعمل كحراس حتى قبل أن يوظفوا العمال والإداريين! لكن التراكمات الأمنية تلك أسسّت لطبقة واسعة وشريحة كبيرة من هؤلاء الذين يحسبون أن الأمن يعني القوة وفقط، رغم أن بعضهم تحول إلى حارس وعون أمن بالصدفة أو طلبا للقمة نظيفة، في حين توارثها آخرون أباً عن جدّ، كما توارثت عائلات بأكملها عمارات وشركات، فأصبح من المستحيل أن يعمل فيها الدخلاء، مثل الشاب »ج«، الذي يعمل حارسا منذ سنوات في مؤسسة نفطال، فحتى بعد وفاة والده يقول للشروق إنه كافح من أجل الإبقاء على وظيفة الحارس له، ومن بعدها لابنه، رغم أنه لا يوجد أحد يتمنى أن يورث مثل هذه المهن إلى فلذات كبده »لكن الظروف الاجتماعية القاهرة، وصعوبة الحصول على وظيفة في هذا الوقت فرضت هذا المنطق« مثلما يقول. معظمهم مغرور ويعشق البيروقراطية بيد أن الصفة الأساسية التي تلاحق هؤلاء الحراس وأعوان الأمن في كل مكان استفسرنا الناس عنهم كانت القول، إن معظمهم أصيب بالغرور فظن نفسه مديرا أو وزيرا، خصوصا أولئك المتواجدين عند أبواب الشركات والإدارات، ففي كثير المرات نجد يقول أحد المستجوبين استقبالا من المدير أحسن بكثير من استقبال بوابه، وبعض هؤلاء تمشي البيروقراطية في دمهم وكأنهم يعتقدونها شرطا من شروط الحفاظ على المنصب! يقول أحد الشباب إنه تفاجأ مؤخرا عندما ذهب إلى مصلحة إدارية في وهران ولم يستطع مقابلة المدير لكي يقدم ملفه طلبا للعمل، بل واجهه الحارس قائلا له: »أنا في مكان المدير أخبرني ماذا تريد«. ولأن الشاب أراد أن لا يظهر في شكل المستهزئ بمن يكلمه، فقد ألح بهدوء وبأدب مجددا طلبه »ولكنني أريد المدير لأمر شخصي«، هنا لم يجد الحارس مرة أخرى إلا أن يؤكد »لا توجد أمور شخصية بعيدة عني في الإدارة فأنا في مقام المدير«! والغريب أن الشاب رضي بالأمر الواقع، وسلم ملفه للمدير الجديد، بعدما سئم من انتظار شخص من الداخل، خصوصا أن لا أحد يعلم ما يحدث عند الباب ولا أحد يتدخل في صلاحيات عمّي (فلان) مثلما يسمونه جميعا هنا، في هذا الديوان الجهوي بوهران! البوابون الفرنسيون وراتب 4500 فرنك! قبل 6 سنوات، نقلت وكالات الأنباء خبر احتجاج ما يزيد عن 90 ألف بواب فرنسي من بينهم 25 ألف بواب من العاصمة باريس أمام »النقابة المستقلة لحراس المنازل«، وذلك للمطالبة بتحسين أوضاعهم الوظيفية بعدما أظهر الاستقصاء الذي قامت به النقابة الخاصة بحماية البوابين، والذي أجرته على أكثر من 2500 بواب أن 80٪ منهم ضحايا للألفاظ البذيئة، و20٪ يتعرضون للاعتداءات الجسدية من قِبَل سكان المنازل! وقد اعترض البوابون (حراس العقارات) المتظاهرون على انخفاض رواتبهم، وسوء أحوالهم، حيث يصل راتب البواب إلى نحو 4500 فرنك شهريًّا، قائلين: »إن هذا يتعارض مع ارتفاع المصاريف في فرنسا«، واشتكوا من سوء المنازل المخصصة لهم وضيقها، بحيث أصبحت تشبه السجن، واعترضوا على انعدام الأمان، نظرًا لأن أصحاب العقارات قد يفصلون البواب من وظيفته، وبدون أي مبرر. وقال البوابون »نحن نُعَدُّ المخرج الوحيد للموظفين العائدين من أعمالهم المحملين بالمشاكل؛ حيث يفرغون كل شحنات الغضب فينا«، ولاشك أن نظراءهم في الجزائر سيعضون أصابعهم غيرة عندما يقرأون الراتب الذي يحتجون عليه، أو مشاكلهم مع الناس هناك، علما أن استطلاعا أجري في فرنسا دوما أظهر أيضا أن 75٪ من البوابين فخورون بمزاولة هذه المهنة، وأن 90٪ لا يتمنون أن يزاول أبناؤهم هذه المهنة، ولكن ماذا لو أجري مثل هذا الاستطلاع في الجزائر؟... كم من البوابين والحراس سيقولون إنهم سعداء وهل يتمنى أحدهم توريث المهنة لابنه؟.. يقول بن علي، وهو شاب في الثلاثين من عمره ويشتغل حارسا بعقار تابع لبلدية سيدي بلعباس، »إنه ليس فخورا بالمهنة ولكنه فخور بأنها شريفة وتطعمه خبزا نظيفا«، ولكنه في ذات الوقت لا يريد توريثها لابنه التلميذ، خصوصا أن هذا الأخير يخجل من ذكرها لمعلميه وأصدقائه، وقد تفاجأ يوما حين وجده قد كتب في تعبير كتابي عن مهنة الأب أنه يعمل موظفا إداريا، وأن مكتبه فاخر! ولكن المهنة لا تخلو من بعض المحاسن التي تجعل تاركها يندم عليها، فقبل أيام قليلة التقينا بسائق طاكسي، وكالعادة فإن هذه الشريحة من المواطنين تنقسم إلى نوعين، فبعضهم كثير الكلام وآخرون لا يردّون حتى السلام، وقد صادفنا سائقا من النوع الأول، حتى أنه كان كثير الكلام إلى درجة الثرثرة فكلّمنا عن ماضيه المهني قائلا بنوع من الحسرة، إنه كان حارسا بجامعة بلعباس قبل سنوات ولم يجد في حياته مهنة »أريح وأجمل وأصلح« من عمل الحارس، وعندما استفسرنا عن السبب، قال لأنه كان بوسعه أن يدخل عند أي مسؤول ويحصل على بقشيش وهدايا لحل بعض مشاكل الطلبة والزائرين لأنه الوحيد الذي يستطيع الدخول لأي مسؤول مهما كان، أما اليوم فإنه مقيد بمهنة »الطاكسيور« ولا يستطيع معها حتى أن يهرب من ساعات الدوام وأوقات العمل مثلما كان يفعل سابقا، وتلك هي إحدى أهم وأكبر ميزات الحراسة »عن بعد«! قادة بن عمار