عندما نقول الشربة لا نعني بها حساء الخضر أو السمك أو البصل وكل أنواع الحساءات المعروفة في دول العالم، بل نقصد تلك الطبخة المميزة سيدة المائدة في رمضان، والتي يتفنن الجزائريون في إعدادها من الشرق إلى الغرب وتتصاعد رائحتها مع بداية أول يوم صوم في الشهر الفضيل.. رائحة مميزة للتوابل والحشائش والفلفل الحار والنعناع والكثير من العناصر الغذائية التي تمزج فيها، لكن الأصل في تحضيرها هو اللحم و"الفريك"، وتحضر في قدر خاصة تسمى "قدر الشربة" تحرص المرأة على شرائها خصيصا مع حلول كل شهر رمضان سواء كانت من الألمنيوم أو من الفخار. الشربة فريك أو "الشريبة" كما يدلّلها سكان العاصمة أو "الجاري" كما يسميها سكان الشرق الجزائري هي زينة مائدة الإفطار وفخر الطبخ الجزائري، وهو الطبق الذي يميز أرقى المطابخ بما فيها مطابخ الرؤساء والوزراء والشخصيات كمطبخ إقامة جنان الميثاق الذي يتميز بإعداد شربة فريك من أشهى ما يكون مع البوراك باللحم المفروم. ويفتخر الجزائريون بشربتهم التي أبهرت الكثير من الأجانب ففي الولائم والمناسبات الرسمية تحرص الفنادق الجزائرية على تقديم الشربة كفخر الطبخ التقليدي الذي لم يندثر مع الأجيال، على الرغم من إدخال العديد من التعديلات والمهارات الفنية عليها، لكن في الأخير المذاق يبقى في كل مرة لذيذا، وطعم الشربة الساحر ونكهتها المتصاعدة تملك كل الحواس، ففي الشرق الجزائري يحضّر "الجاري" فقط أساسا بالبصل المفروم ولحم الغنم مع الحشائش "الدبشة" أو كما يسميها سكان الوسط "حشيشة مقطفة أو حشيش شربة" ومع مرور الوقت تم تعديل مذاقها بإضافة حبات من الحمص وفي نهاية الطهي تضاف كمية معتبرة من النعناع المجفف والمهروس لإعطائها نكهة قوية مميزة، أما في منطقة الوسط، وخاصة سكان العاصمة والبليدة فيضيفون لها "الكوسة" التي تعتبر عنصرا هاما لإنجاح الشربة وتعرف أسعار الكوسة قبل شهر رمضان ارتفاعا جنونيا يصل إلى 200 دينار للكيلوغرام في بعض الأوقات. أما العنصر الأساسي هو الفريك الذي يضاف إلى اللحم والبصل والطماطم فتجد النساء قبل شهر رمضان يتهافتن على المحلات والمساحات الكبرى لشراء النوعية الرفيعة من الفريك وانتقائه بعناية وهو عبارة عن قمح صلب يتم قطف سنابله قبل موسم الحصاد عندما تكون السنبلة خضراء اللون تجفف حبات القمح وتطحن وتدقق في شكل طحين يضاف إلى الشربة وهو ما يعطيها قيمتها الغذائية إضافة إلى اللحم. اتصلنا بالسيدة حورية عبد الرزاق وهي أشهر طاهية عملت في مطابخ الوزراء والسفراء والشخصيات الارستقراطية منذ سنوات السبعينيات إلى نهاية التسعينيات فقالت أن كل من عملت لديهم من الأجانب يحبون الطبخ الجزائري وخاصة "الشربة فريك" وقالت لنا "ذات مرة وفي شهر رمضان عندما كنت أعمل في سفارة الكاميرون حضرت طبق الشربة للإفطار، فعندما انتشرت رائحتها ونكهتها الزكية في أرجاء إقامة السفير "فرونسوا ايباكيسي" دخل إلى المطبخ وقال لي بالفرنسية "حورية ماذا تحضِّرين؟" فأجبته "شربة" فتذوقها فأعجبته كثيرا إلى درجة أنه طلب مني إعدادها طوال شهر رمضان ليأكل منها بدل الأرز الذي يعتبر غذاء رئيسيا ومميزا بالنسبة للأفارقة، ومنذ ذلك اليوم استطاع سفير الكاميرون أن يتخلى عن الأرز الأفريقي أمام الشربة الجزائرية وطلب من طاهيته آنذاك أن تواضب على تحضير أطباق جزائرية مائة بالمائة لأن "بطنه لم تعد تؤلمه" كما قال للطاهية. وتقول السيدة حورية أن الشربة الجزائرية سحرت ارستقراطيين في فرنسا حيث عملت لدى عائلة "براك دولا بيريار" وزوجته "كورين شوفاليي" لمدة ثماني سنوات في قصرهم بمدينة ليون الفرنسية وكانوا معجبين بالطبخ الجزائري وخاصة الديك الرومي و"الشربة فريك" التي يعتبرونها طبقا رائعا بامتياز يطلبونه في كل مناسبة. أصل الشربة.. الجيش الانكشاري يعرف عن الجيش الانكشاري للدولة العثمانية حبه للطعام والأكل وكان سلاطين الدولة العثمانية يخصصون ميزانية كبيرة تُنفق على وجبات الانكشاريين، ويعرفون أيضا بقدور كبيرة يجرّونها معهم إلى أرض المعارك أينما حلوا، وقد بحثنا في أصل الشربة فوجدنا أن الجيش الانكشاري كان يستخدم قدوره الكبيرة في تحضير نوع من الشربة التي تعتمد على القمح المهشم والبصل وكانت الشربة هي الطبق الرئيسي والوحيد تقريبا بالنسبة للانكشاريين إلى درجة أن هناك مرتبة عسكرية في الجيش تسمى"الشربجي باشا" أي محضِّر الشربة وهو شخص تُسند إليه مهمة تسيير ميزانية الشربة والإشراف على تحضيرها خوفا من دس السموم من طرف الخائنين. وقد ورث الجزائريون الشربة عن الانكشاريين خلال فترة التواجد العثماني بالجزائر، لكن تم تطوير هذا الطبق فيما بعد وأدخلت عليه الكثيرُ من التعديلات والإضافات التي أعطته ميزة كبيرة وأصبحت الشربة الجزائرية أكلة مشهورة وطبقا يميز شهر رمضان بشكل خاص.