يحبس التونسيون جميعًا أنفاسهم، وقد وصلت الحملة الانتخابية الرئاسيّة منتهاها، بين من يرى في تنظيم الانتخابات ذاتها نجاحًا ينتصر على التهديدات الإرهابية، وبين من يرى في نجاح هذا المترشح أو ذاك، خطرًا على البلاد أو سبيلا لإنقاذها. الحال في تونس يختزله المناخ الانتخابي، بين ما هو "فرح" بالديمقراطية، وما تمكّن من حريّة في التعبير، وما هو توتّر تمليه الرهانات بأحجامها المحليّة والإقليمية والدوليّة، وخصوصا ارتباط هذه الانتخابات بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي القادمين، أساسًا هويّة الحكومة القادمة ومشروعها في علاقة مع متطلبات الشعب التونسي. حملة انتخابيّة رئاسية تعيش يوم صمتها، وسط سيل من عمليات سبر للآراء التي يحظر القانون نشرها، لكن تداولها بعيدا عن الإعلام، لا ينزع فقط مصداقية هي في أشدّ الحاجة لها، بل يزيد المشهد ضبابيّة، خاصة وأنّ وسائل الإعلام، في أغلبها، وعلى الخصوص القنوات التلفزيونيّة لم تمارس التحيّز لهذا المترشح أو ذاك، بل تحولت أحيانًا إلى الواجهة أو هي الحربة التي تقاتل بها المتراهنون على قصر قرطاج. الانسحابات من السباق فتحت باب الإشاعات على مصراعيه، سواء لدى عموم الشعب، أو وسائل الإعلام التي اتكلت على "تسريبات" مفترضة لضرب بعض المترشحين. الانسحابات مثلت وستمثّل لحظة افتتاح صناديق الاقتراع صبيحة غد الأحد، أهمّ المتغيرات التي بإمكانها ليس تغيير الخارطة الانتخابية، بل التأثير المباشر في النتائج، حين انسحب 5 مترشحين، تاركين المكان للبقية دون أن تكون الصورة واضحة سواء بخصوص تأثير الأمر أو وهنا الأهمّ مآل الأصوات واتجاهها. يسيطر على المشهد برمته الصراع بين المنصف المرزوڤي الرئيس الحالي، والباجي قائد السبسي، وقد ترسّخ هذا "الاستقطاب" (كما يقول التونسيون) أو تأسّس على نتائج الانتخابات التشريعيّة التي كانت رسخت ثنائيّة النهضة والنداء، ليكون التونسيون اليوم أمام استقطاب رئاسي، ندّدت به عديد المرجعيات الإعلامية والسياسيّة، بل رآه الكثيرون "خطّة مدروسة" و"حيلة خبيثة" لاستبعاد عدد كبير من المترشحين وحصر السباق في اثنين فقط. وجب القول أنّ هذا الاستقطاب لم ينشأ من عدم، بل أسّست له نتائج الانتخابات التشريعيّة، حين جاءت نتائج أحزاب بعض المترشحين، صادمة ضمن المعنى المباشر للكلمة. لم يحصل التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، حزب مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي على أيّ مقعد، والحزب الجمهوري حزب أحمد نجيب الشابي فاز بمقعد واحد، في حين جاءت نتائج حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة مخيبة، وإن كان المرزوڤي رئيسه "الشرفي". زلزال بأتمّ معنى الكلمة، خصوصا وأنّ حزب الاتحاد الوطني الحرّ الذي لم يكن له سوى مقعد واحد في المجلس التأسيسي مثل "مفاجأة الموسم" وحصد 16 مقعدًا، ممّا جعل سليم الرياحي المترشح للانتخابات الرئاسيّة يتحوّل إلى رقم صعب في المعادلة. إنّها معادلة الدوائر المتداخلة: صراع ثنائي، بل هو استقطاب بين "زعيمين" من جهة، وصراع داخل كل "طرف" حين انسحب كلّ من عبد الرحيم الزواري أمين عام سابق للتجمع الدستوري المنحل لفائدة الباجي، وانسحب كذلك مصطفى كمال النابلي الذي يلعب ضمن الفضاء الذي يتحرك فيه الباجي، تاركا أصواته وفق مدير حملته الانتخابية وناصحا بها لمرشّح الجبهة الشعبيّة حمّه الهمّامي، دون أن ننسى انسحاب محمد الحامدي وعبد الرؤوف العيادي لفائدة المنصف المرزوڤي. لا أحد يعلم من منظار علم الحساب، مدى تأثير هذه الانسحابات على واقع الصندوق، وما سيقدّم من نتائج، لكنّ المسألة أصبحت حديث العامّة والنخب، بل محلّ تكهناتهم وتهكماتهم. تختصر الانتخابات الرئاسيّة واقع السياسة في تونس، حين تخاف النهضة من "تغوّل" حركة نداء تونس، أي سيطرتها على هذه الانتخابات، كما جاءت حركة نداء تونس الأولى على مستوى الانتخابات التشريعيّة، ممّا يفتح الباب وفق تصريحات عديد قيادات النهضة على عودة (محتملة) للنظام السابق، دون أن تدعم النهضة صراحة منافسا للباجي قائد السبسي، وإن كان جزء هام من قواعدها وكذلك إطاراتها الوسطى مشاركة ودون مواربة في حملة المنصف المرزوڤي، بل هنا جزم لدى عديد الملاحظين أنّ الرئيس الحالي، ليس في حاجة فقط لعُمق النهضة، بل وأساسًا لعشرات الآلاف من المراقبين الذي لا يمكن العثور عليهم خارج "ماكينة" النهضة، دون أن ننسى التناقض (المتعمّد) في خطاب قيادة هذه الحركة الإسلاميّة، بين من يقول بالحياد التام والكامل وأنّ مجلس الشورى أعلن صراحة عدم دعم أيّ مترشح وفسح المجال للقواعد أن تنتخب من تشاء، وبين إشارات صريحة وتصريحات كمثل عبد الفتاح مورو نائب رئيس الحركة الذي أعلن أن الجزء الأكبر من العمق النهضاوي يوالي منصف المرزوڤي. الإجماع قائم في تونس، على ضرورة المرور للدور الثاني لحسم الانتخابات الرئاسية، لكن السؤال الذي يؤرق الكلّ من جميع الأطراف: كيف سيكون الترتيب وكيف ستكون نتائج الدورة الأولى، سواء لبحث تشكل التحالفات والتكتلات لاحقا، أو لقراءة من سيعطي لمن أو من سيخذل من؟