كانت الأمور تسير بشكل طبيعي في بوليفيا إلى أن تم اكتشاف حقل ضخم للغاز الطبيعي في مقاطعة "تاريخا" بالجنوب عام 2000، لتدخل البلاد دوامة من الاضطرابات لا زالت ارتداداتها قائمة إلى اليوم. فبحلول العام 2003، تسبب مشروع حكومي بمد أنبوبإلى ساحل المحيط الهادي عبر الشيلي المجاورةلتصدير الغاز إلى الولاياتالمتحدة، في قيام موجة احتجاجات عنيفة في "تاريخا" أولا ثم في كامل البلاد بعد ذلك، للمطالبة بالحفاظ على الثروة الوطنية من الغاز وحمايتها من الاستغلال الأجنبي.وعندما حاولت الحكومة فرض الأمر الواقع بالقوة ازدادت الأوضاع تأزما ودخلت البلاد حالة غير مسبوقة من الفوضى، وهو الأمر الذي أدى بحلول العام 2006، وأمام صمود الشارع، إلى سقوط ثلاثة رؤساء: غونزالوسانشازوكارلوس ميسا وإدواردورودريغاز. وقد أفرزت الأزمة سابقة أخرى في تاريخ البلاد، فللمرة الأولى منذ الاستقلال عن اسبانيا عام 1825 تقلد أحد السكان الأصليين من الهنود منصب رئيس الدولة، وقد استطاع إيفو موراليس ذو التوجه اليساري حسم قضية الغاز من خلال تأميمه وفرض احتكار الشركة الحكومية المحلية لاستخراجه وتسويقه.ولكن الاحتفال بهذا الانجاز لم يدم طويلا، إذ أن مشكلة أخرى غير سارة كانت في انتظار الرئيس التقدمي الجديد. فقد تسبب برنامج للإصلاح الزراعي، أراد من خلاله موراليس تمكين الهنود من امتلاك جزء من الأراضي الزراعية الخصبة في الشرق الغني من إثارة سكان "الاوريانتي" الذين كانوا متذمرين أصلا مما كانوا يعتبرونه تمييزا من الحكومة المركزية واختلالا سياسيا بين الشرق مصدر الثروة و"الألتيبلانو" مركز الحكم في الغرب. وسرعان ما ثارت الاحتجاجات في "سانتا كروز" و"بيني" و"تاريخا" وباقي المقاطعات الواقعة يمين "قوس الثروة" الذي يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب مقسما البلاد إلى قسمين: فقير وغني، واندلعت المواجهات بين معارضي موراليس وأنصاره، وعادت أجواء التوتر لتعم البلاد مرة أخرى، ولكنها بلغت هذه المرة حد إجراء استفتاء حول المزيد من الاستقلال السياسي والاقتصادي في المناطق المحتجة عام 2008.ولم يعد الاستقرار إلى البلاد، ولو بطريقة هشة، إلا بعد إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في العام الموالي، تمكن فيها موراليس من الفوز مجددا مستفيدا من الأغلبية التي يشكلها السكان الأصليون المساندون لسياساته. ماذا يمكن أن تقدمه التجربة البوليفية للجزائريين لمواجهة أزمة الغاز الصخري المندلعة في البلاد منذ أشهر؟ وما الذي ينبغي فعله حتى لا تصل الأمور إلى حد ما نخشاه باطنا ولا نستطيع الجهر به ظاهرا، أقصد تطور الأمور إلى حد ظهور نزعة انفصالية، أو مطالب بنوع من "السيادة الجنوبية" على مصادر الثروة الكامنة في باطن المنطقة وسطحها. الخطر الأكبر يكمن في بقاء الاحتجاجات جهوية الطابع، فذلك من شأنه أن يعزز في سكان الجنوب الشعور بخذلان الشمال، وهو شعور يضاف إلى التذمر القائم أصلا تجاه السياسات التنموية التي حابت الشمال منذ الاستقلال، ولم تمكن الجنوب، مصدر الثروة، من معاملة اقتصادية عادلة. إن التعامل مع مطالب "الحراك الجنوبي" بصفتها مطالب وطنية، سيجنب البلاد مخاطر كثيرة، وسيكون السماح لسكان الشمال بالتظاهر والاحتجاج، ولو بطريقة "عفوية" مفيدا جدا لتقوية اللحمة الوطنية. وحتى يتسق القرار الحكومي مع مقتضيات الحكمة السياسية، يمكن العدول عن بعض قرارات السياسة العامة المرفوضة شعبيا، أو على الأقل تأجيلها، إلى أن يحين الوقت المناسب، أو تظهر بدائل أكثر جاذبية. بعبارة أخرى، يتعين على صانعي القرار أن يختاروا بحزم بين التنازل لصالح الوحدة الوطنية أو "التاغنانت" من أجل مصالح فئوية ضيقة، محلية كانت أو أجنبية، أو حتى مكاسب قومية محتملة. وأخيرا، لا شيء يمكنه حسم القضايا المختلف فيها أفضل من الآليات الديمقراطية، إذ أنها ستمنح الشرعية للبدائل التي سيتم اعتمادها، وقد لجأت بوليفيا إلى الانتخابات مرتين من أجل الفصل في النزاع، وكانت القرارات المتخذة عقب كل انتخاب أكثر قبولا وأقدر على تخفيف التوتر وبناء "إجماع أغلبية" يمكن البلاد من مواصلة طريقها نحو الأمام. لكن ذلك كان بحاجة، في المرة الأولى، إلى تحمل للمسؤولية، وفي الثانية، إلى شجاعة سياسية. وهي فضائل لا يبدو أننا في الوضع الحالي، نحن الجزائريين، على استعداد للاحتكام إليها في مواجهة أزماتنا المختلفة.