كرّم مجمع الشروق بالمكتب الجهوي في ورڤلة ذاكرة فضيلة الشيخ العلاّمة محمّد بن الحاج عيسى مسروق، أحد أعلام الجنوب الجزائري، ومفتى الديار الورڤلية وكبير الفقهاء الذين عايشوا الثورة التحريرية الكبرى، وحضر التكريم لفيف من مشايخ المنطقة ممن رافقوا الشيخ في مسيرته، فضلا عن عدد من تلاميذه، وأفراد من عائلة الشيخ الجليل رحمه الله من بينهم حفيده الطالب بشير، وابن الشيخ الحاج عيسى الذي تسلم نيابة عن عائلة الشيخ رحمه الله "برنوس الشروق" ودرعها من طرف مدير مكتب الشروق نيابة عن المدير العام لمجمع الشروق الأستاذ علي فضيل. فكرة التكريم من مجمع الشروق جاءت رغبة في تعميم هذا الفعل الخيري عبر كامل التراب الوطني، بما في ذلك الجنوب الكبير الذي يزخر بطاقات هامة وفاعلة وأدمغة في كل المجالات لا يستهان بها. ولم يفوّت ممثل العائلة الطالب بشير الفرصة للحديث عن هذه المبادرة التي وصفها بالممتازة لتكريم العلامة الفقيه محمد بلحاج عيسى رحمه الله وهي الأولى من نوعها في الصحافة بالجنوب، نظير إسهاماته في تلقين مبادئ الدين وأصول الفقه، وتنوير العقول وتحريرها من الذل والخنوع للمحتل الفرنسي الغاشم، حيث بلغ سنه 73 سنة 1962 وهي سنة الاستقلال، وقضى أكثر من 60 سنة في العلم والتعليم رافعا راية الجهاد ضد العدو الفرنسي والحث على محاربة الجهل. وتطرق الحضور، من بينهم الشيخ علي خويلدي والأستاذ عبد القادر طواهير والحسن حساني بن إبراهيم الشريف شيخ الطريقة القادرية بالجزائر وعموم إفريقيا، والشيوخ خالد باعمر ومسعود بن عامر، وعطا الله حقيقة ومحمد دادنه وبن منصور الشيخ والمجاهد علي بن فردية ورجل الأعمال بوبكر زرقون، إلى نضال الشيخ العلمي وقت الثورة، والعلاقة التي ربطته بتلاميذه في جميع مراحل حياته. وتحدث الجميع بإسهاب عن حياة الشيخ المفتي رحمة الله عليه، وكيفية مساهمته في بناء جيل متماسك، فهو حسب قولهم، المحدّث الفقيه والأديب والأب والأخ والرفيق، فضلا عن طيبته وسخائه وحكمته ورزانته، فكان هادئا كتوما، وجادا حاسما وصريحا في أمور الشرع حريصا على تطبيق مبادئ الشريعة السمحاء ومرجعا دينيا من كبار علماء الإفتاء في الجنوب حيث استطاع أن يحوّل الجنوب إلى منارة علمية، رغم أن فرنسا شددت عليه الخناق ووضعته تحت الإقامة الجبرية لمدة طويلة. وأثنى تلاميذه أثناء حفل التكريم، منهم من تقدم به العمر وتجاوز عتبة 90 سنة، على الشيخ رحمه الله وفضلوا تحمل عناء التنقل إلى مكتب "الشروق" بورڤلة، كأقل واجب تجاه من شيخهم. وقال بعضهم إن للعلامة مناقب وصفت بالكرامات الربانية وتمكن بعطفه وحبه عليهم أن يكسب قلوبهم، فكان يحفزهم على طلب العلم والتحلي بالأخلاق الحميدة والتمسك بتعاليم الدين ومواصلتهم في التماس العلوم النفعية ونشرها ومحاربة المستعمر.
الشيخ محمّد بن الحاج عيسى في سطور هو العلاّمة محمّد بن الحاج عيسى مسروق بن علال ولد في عام العظماء سنة 1989بقرية تسمى الشط 07 كلم عن عاصمة الواحات ورڤلة، وهي المنطقة التي يتواجد بها ضريح الولي الصالح سيدي بلخير الشطي المعروف على مستوى الجنوب الكبير وينتمي الشيخ إلى عائلة محافظة، عُرفت بِحُبها للعلم ومجالسة العلماء، وكان والداه حريصين على تربيته فأصبح، عالما جليلا ومفتي الصحراء حسبما وصفه الشيخ عبد الرحمان الجيلالي رحمه الله. زاول العلاّمة تعليمه مبكرا حيث التحق بالكتاب لتلقي تعاليم القرآن الكريم، وسنه لم يتجاوز 04 سنوات وكان أبوه يقسم له أن لا يدخل المنزل إلا بعد حفظ لوحته، وبينما كانت أمه تحرص على أن توقظه فجرا ليلتحق بالمسجد، فعرف منذ صغره بذكائه وسرعة حفظه حيث تمكن من حفظ القرآن كاملا وسنه لا يتجاوز الحادية عشر، إلى جانب ألفية ابن مالك وغيرها من المتون والشروحات. تلقى تعليمه الأول على يد 02 من كبار العلماء من بينهم الشيخ السكوتي من عاصمة توات والذي نزل بالقصر العتيق بورڤلة، هذا الأخير الذي استأذنه العلاّمة محمّد بن الحاج عيسى ذات مرة بأن يأذن له لزيارة البقاع المقدسة، وقد علم شيخه أن الصفات التي يحملها هذا الطفل هي صفات العلماء الأتقياء، فمنعه من السفر وحثه على مواصلة تعلمه، وبعد إلحاح شديد منه أذن له بذلك. والشيخ الثاني عبد الله الشنقيطي الموريتاني، الذي لبث هو الآخر بالمنطقة لمدة من الزمن، والذي قال في العلامة محمّد بن الحاج عيسى مسروق "ما سبب مجاورتي لورڤلة إلا أنت" فلم يكن طالبا عاديا وامتاز بصفة الذكاء والفطنة وشدة الحرص على افتكاك العلم وشغفه بالتعلم، حيث نهل من العلوم الحديث، الفقه، النحو الوظيفي، الشعر، البلاغة والعروض، واكتسب من مشائخه الاعتماد على النفس، والتواضع والرفعة وحسن المعاملة، وضرورة الدفاع على مبادئه وقيمه، كما كانت له اتصالات بعديد العلماء سيما أعضاء جمعية العلماء المسلمين على غرار البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي. وبعد نضجه واشتداد عوده، أخذ على نفسه أمانة الإصلاح ونشر العلم في ربوع الصحراء، حيث كان يجوب بفرسه مختلف القرى ومناطق البعيدة عن قلب المدينة، حيث قسم أيامه على جهات المنطقة، فكان يدرس بالسبت في سيدي خويلد، والأحد بالرويسات، ويوم الاثنين بعين البيضاء، والثلاثاء والأربعاء ببني ثور، ويوم الخميس بالقصر العتيق، ويوم الجمعة بمدرسته الواقعة بالشط، الأمر الذي مكّن الكثيرين من تعلم القرآن الكريم والأحاديث النبوبية. ومن بين العلوم التي كان يدرسها علوم الفقه، وأصول الشريعة، وعلوم اللغة، وعلوم القرآن، فكان يلقن متن ابن عاشر، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، والخليل وأسهل المسالك، وعلم التوحيد وعلم الكلام "المنطق" وعلم الرسم والقراءات والتجويد وكذا ملحة الإعراب والأجرمية، والألفية، وعلم المعاني والبيان، وفي الحديث خصوصا صحيح البخاري ومسلم. ومن شدة شغفه بالعلم كان لا ينام من الليل إلا ساعتين، حيث كان يشغل نفسه بالكتابة فكان يكتب كل ليلة وعلى ضوء القمر ما لا يقل عن 300 سطر، وله في النظم 300 بيت جُمعت في ديوان. وكان للشيخ في فترة حياته، عدة لقاءات ومراسلات مع العلماء المعاصرين له من بين الشيخ الطاهر العبيدي، والشيخ الهاشمي بن سيدي ابراهيم بن أحمد الشريف شيخ الطريقة القادرية، والشيخ محمد الحبيب شيخ الطريقة الشادلية من مكناس من المغرب والذي قدم لزيارة العلامة سنة 1973، والشيخ محمد بالكبير الذي التقاه بالبقاع المقدسة1974. وصدر للشيخ العلامة محمّد بن الحاج عيسى مسروق عديد الفتوى، فكان يفتي بالمذهب المالكي والقول المشهور والصحيح عند جمهور العلماء. وانتقلت روح العلامة إلى بارئها ليلة الجمعة من شعبان 139 ه الموافق ل 29 جويلية 1976.
شهادات رفاقه وتلاميذه الطالب محمد الداوي "بوشنة": اكتشفت فيه كرامات ربانية وحبه للخير قال الشيخ الطالب محمد الداوي "بوشنة"، "عرفته سنة 1960 وكنت أحد تلاميذه، جالسته كثيرا، فدخل الشيخ قلبي وزدت تعلقا به أكثر، وأشهد أنني كلما أذهب إليه أجده يقرأ القرآن الكريم، أو يطالع أحد كتبه، وكثرت ملازمتي له، وكنت بمثابة أحد أولاده فكنت أخدمه بصدق ونية حتى استودعني أسرار عاهدت نفسي أن لا أبوح بها. وكان لي شرف مصاحبته سنتي 1965 و1966 إلى بيت الله الحرام، كنت أقضي معظم أوقاتي معه ونهلت منه شتى العلوم، وقد كان عصاميا في تعليمه ويمتاز بالذكاء والتواضع وحب الخير.
الشيخ الطالب علي خويلد: سيرة شيخنا محطات تعلمت منها الأجيال أولا أشكر الشروق جريدة وقناة لأنها أعادت للشيخ مكانته وهيبته، خاصة وأن هذه المبادرة الطيبة تزامنت في شهر العلم والعلماء، ونسأل الله أن يوفق القائمين عليها، وأن تكون بادرة خير، خاصة وأن هدفها نفض الغبار على أهم رموز المنطقة سيما العلماء وبالأخص من وزن العلامة الشيخ محمد بن الحاج عيسى الذي أنار البلاد والعباد لحقبة طويلة من الزمن علما وأدبا وسلوكا، فأخذ من كل المشارب، كما خرج الكثير من الفقهاء لذلك هو يستحق كل التقدير، والبحث في سيرته وطريقة تعليمة وكذا مناقبه وأخلاقه حتى تكون محطات يتعلم منها الأجيال مع تمنياتي بتكرار مثل هذه المبادرات الطيبة والتي تحي النفوس، أما عن شخصي فقط زرت الشيخ وأنا صغير في السن، وأخذت عنه نصيبا ومن القرآن في سن 06 سنوات، ولما فرضت عليه فرنسا الإقامة الجبرية، ظل بمدرسته يدرس، فأردت أن أستغل الفرصة وأستفيد منه كثيرا.
المجاهد علي بن فردية رفيق الشيخ: "الشيخ كان قناة مستمرة للخير " أثنى المجاهد علي بن فردية الحارس الشخصي للعقيد محمد شعباني في حديثه ل"الشروق" على شيخه ورفيق دربه، وكان ذلك إبان الثورة التحريرية الكبرى، مشيرا إلى أنه كان له شرف صحبته ما جعله يهب نفسه وأهله لخدمة شيخه ورفيق دربه نظير مجهوداته في خدمه العلم والمنطقة، رافعا راية الجهاد بالقلم لتحرير العقول من الجهل. وأكد محدثنا، أن الشيخ رحمه الله، لم توان في دعمه المادي للثورة التحريرية الكبرى خاصة بمنتوج التمر حيث كان الشيخ يمتهن الفلاحة وخدمة النخيل، فكان قناة مستمرة للخير والعطاء، وأضاف أن العلاّمة يعد من كبار الفقهاء بالجنوب، حيث كان يستشار في عديد المسائل الفقيه وأحياء من خارج الديار، ومع ذلك كان لا يريد التحدث عن علم أو عمله، ولم يكن يتباهى بما أتاه الله من خير، وكان متواضعا وخجولا وكتوما.
الطالب محمّد دادنه: شيخنا يشهد له علماء شنقيط بزهده وعلمه قال الشيخ محمد دادنة أحد تلاميذ فضيلة الشيخ العلاّمة الحاج محمّد بن الحاج بن الحاج عيسى مسروق البارزين، أن معرفته بالشيخ تعود إلى سنة 1948 إلى غاية وفاته قائلا إن شيخه من بين العلماء الذين يعتز بهم قطرنا الجزائري، فهو العالم الجليل ومفتي المالكية بورڤلة وما جاورها، تميز منذ صغره بدهائه الخارق وسرعة حفظه للقرآن، وكان لا يعرف كلمة "لا أفهم" ويجتهد للتفقه في دينه على غرار بقية أقرانه، وشهد له بذلك علماء موريتانيا من بينهم عبد الله الشنقيطي الموريتاني. وكان لديه علاقات مع بقية العلماء خارج الجزائر على غرار علماء موريتانيا، الزيتون بتونس، ومشائخ الأزهر وفلسطين وعالم أفغاني كان يلتقيه كل موسم حج، كما كان على تواصل دائم مع العلماء والمشائخ من داخل الوطن من بينهم علماء توات وغيرهم.
الحاج بن منصور الشيخ رفيق الشيخ: فرنسا دست جاسوسا في مجلسه لكنه تفطن للخدعة أكّد الشيخ الحاج بن منصور أن العلامة الشيخ محمّد بن الحاج عيسى مسروق ظهر في فترة عصيبة، وكانت فترة الاستعمار الفرنسي، حيث انتشرت البدع والخرافات والشعوذة التي كرسها المحتل بسبب الجهل الكثير، لكن قاومها على طريقة العلامة حيث حمل مسؤولية تعليم الناس وتبيان طريق الحق لهم، وأن العدو هو الباطل ما شكل حجر عثرة على فرنسا التي كانت تشدد الخناق عليه مستخدمة في ذلك جل الوسائل ووصل بها الأمر إلى أن وضعت له جاسوسا في جميع حلقاته ودروسه، لمعرفة ما كان يقوله الشيخ، ومع ذلك تفطن لأعمالها الخبيثة، وواصل رفع راية النضال بفضل من الله ثم بتشبعه بالثقافية الإسلامية العربية.
شيخ المشيخة العامة للطريقة القادرية بالجزائر وإفريقيا الزهد والورع من صفات شيخنا أكّد شيخ المشيخة العامة للطريقة القادرية بالجزائر وإفريقيا الحسن حساني بن إبراهيم الشريف أن العلاّمة الشيخ "محمد بن الحاج عيسى، كان عالما ربانيا زاهدا ومتصوفا ومفتيا وكانت له علاقة وطيدة بالزاوية القادرية، وانتمائه وقد أصدر لوالده "سي حمة باهي" رحمه الله، عدة فتاوى لازالت محفوظة في مكتبة المشيخة منها فتوى تهديم القباب، وغيرها فضلا عن دوره الكبير في محاربة الجهل والأمية بين أوساط السكان وقت الثورة وما بعدها. ودوره في تفقيه الناس بالمنطقة وإرشادهم في شتى العلوم، وتخرج على يده كبار العلماء على غرار: الطالب حمزة خضران، باعمر الطيب، تليلي عبد العزيز، الطالب محمد دادنة، الحاج علي خويلد وغيرهم.