تُعتبر الزاوية الحملاوية من كبرى الزوايا التاريخية في الجزائر، كما تُعتبر الأسرة الحملاوية من الأسر الدينية العريقة، إذ عُرف العديد من رجالها منذ تاريخ بعيد بالدين والصلاح والعلم والفضل، ويرتفع نسبها إلى الأدارسة الحسنيين من آل النبي صلى الله عليه وسلم. قدمت هذه الأسرة من مدينة تازة المغربية، وحطت رحالها في المكان المعروف «بوفولة» بدائرة شلغوم العيد حاليا بنواحي قسنطينة، وكان ذلك في القرن التاسع الهجري منتصف القرن الخامس عشر ميلادي. وشيّدت الأسرة في بوفولة زاوية لتعليم القرآن وعلوم الشريعة، وبرز منها رجال كانوا من أعيان تلك المنطقة خلال العهد التركي، كما عُرفت بمساهمتها المتواصلة في مقاومة الاستعمار الفرنسي. وتَزعّم الجهاد أعيانها مثل الشيخ محمد الشريف بن الحملاوي، الذي كان تحت قيادة خمس قبائل في أواخر العهد التركي، واستُُشهد في المعارك الأولى التي سبقت الاستيلاء على قسنطينة عام 1837. وكان منهم الآغا أحمد بن الحاج محمد بن الحملاوي الذي كان مستشارا لأحمد باي خلال ولايته الثانية سنة 1832، حيث عيّنه على رأس الجيش، وكان من المدافعين عن قسنطينة في الحملتين الفرنسيتين لاحتلالها، وبعد احتلالها بقي على اتصال بالأمير عبد القادر بواسطة جمعية سرية تمد الأمير بالمعلومات والأموال إلى أن ألقت عليه السلطات الفرنسية القبض ونفته إلى جزيرة سانت مارغريت سنة 1842، وحكمت عليه بالأشغال الشاقة، ثم نُفي إلى تونس وعاد إلى بلده سنة 1845. واستمرت العائلة في رسالتها العلمية والتربوية إلى أن برز من أبنائها مؤسس الزاوية الحملاوية الشيخ علي الحملاوي، الذي تعلم في صباه القرآن والعلوم الشرعية، ثم انخرط في الطريقة الرحمانية على يد السيد خليفة أحد مقدمي شيخ زاوية طولڤة علي بن عمر خليفة الشيخ محمد بن عزوز البرجي، ثم التحق بالزاوية الرحمانية بصدوق نواحي أقبو؛ حيث تتلمذ على شيخها العارف المجاهد إمام الطريقة محمد أمزيان بن علي الحداد، ووصل سلوكه الروحي عنده حتى أصبح من المقدمين فيها. ولما دعا الشيخ الحداد إلى الثورة في أفريل 1871 كان الشيخ علي بن الحملاوي في مقدمة من لبى داعي الجهاد، وبانتهاء الثورة بالقمع العنيف من قبل فرنسا نُفي الشيخ علي إلى جزيرة كاليدونيا لمدة أربع سنوات، ثم أعيد بعدها إلى الوطن ليزَّج به في سجن تبسة مدة ثلاث سنوات، ثم أُطلق ليُسجن مرة أخرى بقسنطينة، وأخيرا أُطلق سراحه، فسارع بتنفيذ ما أمره به شيخه الحداد، الذي كتب في وصيته أن خليفته هو الحاج علي بن الحملاوي ابن خليفة، وأكد عليه القيام بتعليم القرآن والعلوم الشرعية؛ لأنه هو الكفيل بإحياء الجهاد ضد المستعمر في الوقت الذي يريده الله تعالى. وكرّس حياته لنشر القرآن والعلم والتربية الروحية الرحمانية، فكان مربيا ناجحا للكثير من العارفين والصالحين، وتَخرّج من زاويته عدد كبير من العلماء والصلحاء وحمَلة القرآن. كان من عشاق المعارف الإلهية حتى إنه نسخ بيده كتابا كبيرا في أعلى الأذواق العرفانية من تأليف الشيخ علي الجمل العمراني الفاسي «ت: 1239»، أستاذ محيي الطريقة الشاذلية في وقته شيخ الشيوخ مولاي العربي الدرقاوي «ت: 1239»، وعنوانه: «اليواقيت الحسان في تصرف معاني الإنسان»، وفي عهده أصبح لزاويته إشعاع كبير في كل الشرق الجزائري وفي تونس ونشأت لها فروع، وكان له أتباع في طرابلس والقاهرة وجدة. وقد ذكرت الإحصائيات التي جرت في عام 1897م، أنه كان له 44 زاوية و227 مقدما و352 شاوشا، وأن عدد أتباعه يفوق 44 ألفا، وهكذا قضى عمره في خدمة الإسلام والقرآن والعلم والتربية إلى أن توفي سنة 1317ه، فتولى شؤون الزاوية بعده ابنه الأكبر الشيخ الحفناوي، فواصل رسالة والده نحو العامين والتحق بأسلافه، ثم انتقلت المشيخة إلى أخيه أحمد، الذي بقي على رأسها مدة 12 سنة، مجتهدا في مواصلة الدعوة إلى الله ونشر القرآن والعلم وأوراد الطريقة إلى أن توفاه الله تعالى، فتولى المشيخة أخوه عبد الرحمان الذي عرفت الزاوية في عهده تطورا كبيرا، كما زادت الطريقة على يده إشعاعا متزايدا وفيضا واسعا، بالإضافة إلى تطوير برنامج التعليم ومناهجه؛ حيث كانت تدرَّس في الزاوية كل العلوم التي تدرَّس في جامع الزيتونة. استقدم الشيخ سيدي عبد الرحمن أساتذة أكفاء من شيوخ جامع الزيتونة ومن شيوخ بعض كبرى زوايا الجزائر، وقد بلغ عدد الطلبة الداخليين المقيمين في عهده نحو 600 طالب، كان منهم من واصل تعليمه بتونس وفي الجامع الأزهر بمصر وغيره، وبعد حياة حافلة بالعمل الصالح وخدمة الإسلام توفي الشيخ عبد الرحمن سنة 1942 وعمره 67 سنة، وبعده تولى شؤون الزاوية ابنه الشيخ عمر المتخرج من جامع الزيتونة، وقد ترجم له العلامة الشيخ بلهاشمي بن بكار مفتي معسكر رحمه الله، فقال عنه في كتابه «مجموع النسب والحسب»: «وفي عهده وبسعي منه مع أهل الخير، تم فتح المعهد الكتاني في قسنطينة، ليكون فرعا مكملا للتعليم في الزاوية الحملاوية ويقوم بدور عظيم في نشر الثقافة العربية الإسلامية». وبمناسبة افتتاح المعهد الكتاني أقيم حفل بهيج أشرف عليه أحد الشيوخ الذين درسوا بالزاوية الحملاوية، وهو الأستاذ البشير بن صفية، وبالفعل فقد تخرّج من الزاوية الحملاوية والمعهد الكتاني نخب من الإطارات في كل المجالات العلمية والتربوية والإدارية والسياسية، احتلت مناصب سامية في الدولة الجزائرية المستقلة، فمن الطلبة الذين تلقوا بها دراستهم الأولى نذكر مثلا عبد المجيد شافعي، العربي سعدوني، وتركي رابح، وسليمان بشتون ومحمد بوخروبة المعروف بهواري بومدين الرئيس الجزائري الراحل، ومن الشيوخ الذين علّموا بها العلامة الفلكي الشهير المولود الحافظي الأزهري، والعلامة عبد الحفيظ بن الهاشمي، والعلامة الشاعر عاشور الخنقي والفقيه الشيخ محمد الطاهر آيت علجت، ومن علماء تونس الشيخ قريبع والبشير صفية رحمهم الله. وبلغ عدد الطلبة في عهد الشيخ عمر، حسب بعض الإحصائيات، نحو 1000 طالب، وهؤلاء الطلبة كانوا في طليعة المجاهدين في ثورة نوفمبر المباركة، وفي سنة 1955 التحق الطلبة بإخوانهم المجاهدين، وتحولت الزاوية إلى مركز يأوي جنود الثورة ويزوّدهم بالغذاء والأدوية والألبسة والسلاح، يشهد بهذا واحد من قدماء المجاهدين المشهورين، وهو الأستاذ عمار النجار من ضباط الولاية الثانية، في مقال نُشر بجريدة النصر يوم 12 /12 /1989م. وكان من بين هؤلاء الطلبة العقيد علي كافي أحد رؤساء الولاية الثانية، وبالفعل أغلق الاستعمار الزاوية، وفرض على الشيخ عمر الإقامة الجبرية المضيّقة المحاصَرة بقسنطينة حتى الاستقلال، وإثر الاستقلال فتح الشيخ عمر من جديد الزاوية ليواصل رسالته في العلم والتربية والإصلاح إلى أن توفي سنة 1966، فتولى المشيخة أخوه سيدي عبد المجيد، رحمه الله، الذي كان له من العمر أربع سنوات لما توفي والده سيدي عبد الرحمن عام 1942م. وقد وُلد الشيخ عبد المجيد بن عبد الرحمن حملاوي، رحمه الله، بالزاوية الحملاوية في 13 جوان 1938م، توفي والده وهو في الرابعة من العمر، حفظ القرآن الكريم في طفولته بالزاوية، ثم التحق بجامع القرويين بفاس بالمغرب؛ حيث درس علوم الحديث، ليلتحق بعدها بجامع الزيتونة بتونس. قطع دراسته بدافع الوطنية والتحق بصفوف جيش التحرير سنة 1957 وشارك في ثورة التحرير، وتابع تكوينه بمدرسة الإطارات العسكرية التي كانت بالحدود التونسية، لينخرط في صفوف الجيش الوطني الشعبي، فكان في المدفعية، ثم المحافظة السياسية، ثم القطاع العسكري إلى أن أحيل إلى التقاعد سنة 1992م برتبة ضابط سامٍ، وتخرج على يده الكثير من الضباط والقيادات في الجيش. كما شارك، «رحمه الله»، في تحرير قناة السويس ضد الصهاينة سنة 1967 /1968م وتحصّل خلال مشواره العملي في صفوف الجيش الوطني الشعبي، على عدة أوسمة وشهادات تقدير. وبعد تقاعده انصب اهتمامه بالزاوية التي تولى خلافتها سنة 1967م، فرممها من جديد وبعث فيها روح القرآن الكريم والعلوم الشرعية واللغة العربية. وأدخل على الزاوية تحسينات عدة في مرافقها وهيأ ظروف إقامة الطلبة والزوار، وكان يستقبل يوميا وفودا من فئات الشعب لإصلاح ذات البين، ويستقبل الطلبة الجامعيين ويساعدهم في بحوثهم بتوفير أهم المراجع الأدبية والتاريخية النادرة التي تحتويها مكتبة الزاوية، حيث زوّدها بمئات العناوين النادرة. ولقد كان، رحمه الله، السبّاق في عقد أول ملتقى على مستوى الوطن يتناول شخصية الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه بمقر الزاوية الحملاوية 1995 /1996م، كما عقد عدة ملتقيات وندوات وأيام دراسية بالزاوية. وخدمةً لمذهب إمام المدينة المنوّرة، أصدر مجلة بعنوان بأنوار صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الآن في عددها الثامن. وبصدر رحب استقبل 30 طالبا وفدوا من دولة بوركينا فاسو، حيث تكفّل بهم كفالة تامة وأتموا حفظ القرآن ومبادئ الشريعة واللغة. كان الشيخ رحمه الله- يهتم كثيرا بمجريات الأحداث، وكان أول من ندّد بالإرهاب في الجرائد، وكان شغله الشاغل الوطن والقرآن والجيل الصاعد، فكان حقا خدوما للقرآن والشريعة، خادما لوطنه الحبيب منذ شبابه. وقد أثبتت الإحصائيات أنه منذ سنة 1992 إلى 2008م مر بالزاوية آلاف الطلبة، منهم 1900 طالب تخرّجوا حافظين لكتاب الله. ومهما تكلمنا عن مآثر ومناقب الشيخ، رحمه الله، فلن نوفّيه حقه، وما قدمناه كان على سبيل المثال لا الحصر. توفي الشيخ عبد المجيد رحمه الله في 09 نوفمبر 2009م، لتنتقل الخلافة إلى نجله الأكبر الشيخ محمد الهادي حملاوي، مكملا مسيرة آبائه في خدمة القرآن وأمة القرآن. رحم الله شيخنا وأسكنه الجنات العلى، وجزاه عن القرآن والوطن والأمة خير الجزاء. بقلم بلقاسم آيت حمو (الجزائر المحروسة)