لم يعد هناك أدنى شك أن أكبر ندرة سَتَطالنا في المستقبل ليست ندرة الأشياء إنما هي ندرة الأفكار، وأكبر خلل استراتيجي سيمسّ منظومتنا الأمنية والسياسية ويهدد كيان الدولة لدينا، وبقاءنا، لن يكون من خلال وسائل هدّامة اقتصادية أو مالية أو حتى عسكرية، إنما من خلال التأثير على عقول الناس وأمزجتهم وطباعهم ومنظومة قيمهم... لذا يصبح تناول موضوع "أنترنت" وموضوع "الشبكات" الالكترونية بمختلف أصنافها الاتصالية أو الاجتماعية من صميم مشكلات أمننا الوطني يفوق في كثير من الأحيان الخطر الذي تشكّله "شبكات" الإرهاب أو الجريمة المنظمة التي ستكون بعد عقدين أو ثلاثة من الزمن من أساليب القرون الغابرة في المعركة التي ستدور بين الأمم. لعل هذا ما يجعل الكثير من الدول تُسارع اليوم لتحتل مكانة ضمن صراع الشبكات الالكترونية، أو تستبق بشكل أو بآخر أساليب الصراع الجديدة التي سيعرفها العالم، التي سيكون حقل معاركها ليس ساحات القتال ومراكز الدفاع الحسّاسة وكل ما له علاقة بالأرض والفضاء، إنما عقول الناس وأمزجتهم وطباعهم وقيمهم... هي ذي حقول الصراع الجديدة المستهدَفة الآن، والتي ستُستهدَف في المستقبل بطريقة أو بأخرى، سواء بتمكين الغباء من السيطرة على الذكاء عنوة، أو من خلال منع الذكاء من التشكّل والابتكار في أي مجال من المجالات، أو بتشويه كل تفكير خصب ومنعه من العَطاء في الاتجاه الصحيح... لعلنا نعيش اليوم الإشارات الأولى الحاملة لهذا المستقبل؛ ففي أكثر من مستوى نلاحظ بروز اتجاه لتفضيل الجهل على العلم، بل ولتسليط الأدنى على الأعلى، إلى درجة أن كادت قدرتُنا على الابتكار تجفّ في أكثر من مجال، حتى أننا أصبحنا نطلب الخبرة من الأجنبي ليعلمنا كيف نصبح تابعين أكثر من خلال التمكين لاقتصاده ولغته وثقافته وكل شيء لديه على حساب القليل الذي لدينا. في أكثر من مستوى نلاحظ بروز اتجاه لتفضيل الجهل على العلم، بل ولتسليط الأدنى على الأعلى، إلى درجة أن كادت قدرتُنا على الابتكار تجفّ في أكثر من مجال. في المجال الصناعي لدينا سيارة رونو سمبول نموذجا، وفي المجال اللغوي، لدينا في طلب المعونة في مجال التمكين للغة الفرنسية من قبل وزيرة التربية منذ أيام قليلة مثالٌ آخر، وفي مجال ثقافة المجتمع وقيمه، لدينا في الاستخدام المفرط للأنترنت في المجالات السلبية سواء من خلال تعميم الجيل الثالث والرابع من غير أية بدائل للاستخدام الصحيح أو تحصين العقول لأجل الفهم الصحيح، دليلٌ آخر أن كل ما فعلناه إلى حد الآن، يوحي بأننا نتصرف بعيدا عن كل ذكاء خلاّق، وبأن عقولنا حتى وهي تعتقد أنها تنفتح على العالم، إنما تَفتح نفسها لهيمنة أكبر، قادمة من هذا العالم وفي كافة المجالات... والأكثر مدعاة للقلق، هو ذلك الجانب السياسي الذي أغفلناه، حيث أننا نستطيع أن نجد تفسيرا لتعاملنا غير السليم مع التكنولوجيا لأسباب لها علاقة بالتأخّر الهيكلي في منظومتنا التعليمية من مراحلها الأولى إلى الجامعية، ولذلك أسبابه التاريخية وأساليب علاجه، ولكننا لا نجد تفسيرا لتحجّر أفكارنا في المجال السياسي حيث ما فتئنا ننتقل من فكرة سياسية سيئة إلى فكرة سياسية أسوأ منها في مجال إصلاح الدولة ومؤسساتها، وحيث كاد جلّ النقاش السياسي يتمحور حول مشكلات الأشخاص والأشياء بدل أن يتمحور حول مشكلات الأفكار والسياسات، وحيث كادت الفكرة القائلة إن المستقبل سيكون أسوأ من الحاضر والماضي في مجال القيادات الحاكمة تطغى على عقولنا ولا نقبل عنها بديلا، وكدنا نصل إلى قناعةٍ شبه جماعية تقول إنه ينبغي باستمرار ألا نفرح بالمستقبل؛ ذلك أن الحاكم القادم سيكون كما كان في العقود السابقة باستمرار أسوأ من الحالي مهما كان الحالي سيئا، وهي القناعة المهيمنة على العقول التي تستغلها قوى غير مرئية وتسعى لتكريسها على مرّ السنوات لتبقى تقود وتتحكم في مصيرنا بالطريقة التي تريد. أليس في كل هذا دليلٌ آخر على أن هناك مشكلة كبيرة على الصعيد الفكري هي صانعة مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية وهي التي تمنعنا من إيجاد حلول ناجعة لأي منها؟ وهل يمكننا أن نفصل هذه المشكلة عن وسائل الهيمنة الجديدة القادمة عبر الشبكات؟ يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة هذا بهذا، وأنّ الشبكات الجديدة بريئة مما يُلصق بها، وما هي سوى بناء فوقي لا أثر له في الواقع الذي نعيش، وأن ما يَصنع هذا الواقع المتردي هو تلك الظروف المادية والتاريخية التي عرفناها منذ حقبة ما قبل الاستقلال، وأنه علينا أن لا نغالط أنفسنا ونُحمِّل هذه الشبكات الجديدة ما ليست مسؤولة عنه، ونكاد نجزم أن ذلك صحيحٌ ما لم نطرح الموضوع ضمن رؤية المستقبل، ما دمنا نستمر في النظر إليه ضمن الحاضر والماضي فقط. أصبحنا نطلب الخبرة من الأجنبي ليعلمنا كيف نصبح تابعين أكثر من خلال التمكين لاقتصاده ولغته وثقافته وكل شيء لديه على حساب القليل الذي لدينا. صحيح أن الشبكات تبدو بريئة، ضمن هذا المستوى من الرؤية المرتبطة بالزمن الماضي والحاضر، ولكننا عندما ننتقل إلى مستوى الرؤية المستقبلية فسنتأكد بأن الذي أصبح يهيّئ الأرضية لقراراتنا، في أي مجال من المجالات هي الشبكات، وهي التي ستقوم بهذا العمل في المستقبل، هي التي تشكّل عقولنا الآن وغدا لقبول سياسات تصنيع معينة مُعدّة في الغرب، وهي التي تشكل أنماط استهلاكنا وأذواقنا وعاداتنا وتقاليدنا، ومنظومتنا القيمية بشكل عام، وهي التي -في آخر المطاف- ستُستخدم لتهيئة الأرضية لأية تغييرات سياسية قادمة... لذا، لا يمكن أن نتحدث عن تغييرات "ديمقراطية" أو تغييرات في السياسات العامة في أي قطاع من القطاعات نابعة من مكوّناتنا الذاتية وقادرة على خدمة مصالحنا الوطنية وبإمكانها الحفاظ على سيادتنا الوطنية إذا لم نكن قادرين على التحكم في محتوى الشبكات التي تصنع عقول أجيالنا الحاضرة والمستقبلية، ذلك أن أي تشكيل لسياسة معينة اليوم أو غدا في أي قطاع لن نزعم أبدا أنه سيكون من صُنعنا إذا لم يكن من صنع شبكاتنا الخاصة غير المُهيمَن عليها وغير الموجهة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من قبل الآخرين، وهنا تتأكد لنا أهمية المبادرات التي أصبحت تركز عليها الدول الصاعدة المتمثلة في مجموعة "البريكس" المتعلقة بالاستقلال عن شبكة الأنترنت المهيمنة على العالم اليوم، وتزداد إلحاحا لدينا فكرة أننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نصنع مستقبلنا بعقول غير قادرة على إنتاج الأفكار مرتبطة بمستقبل غيرها، تشكلها شبكاته كما يشاء إلى درجة أنها تستخدمه، وهو يعتقد أنه يستخدمها، ألم نفعل ذلك أكثر من مرة وعلى أعلى مستوى؟