نهاية الأسبوع الماضي، عاد الحديث، في إعلام »أم الدنيا«، عن قضية »الكرامة المصرية« إلى الواجهة. شعارات كثيرة ولغط كثير في مصر، حول الوطنية المصرية، و»حق« مصر، وقرارها »السيد«، وأن لا أحد يستطيع »أن يفرض عليها إرادته«. من يسمع مثل هذا الكلام، ويتابع تصريحات المسؤولين المصريين بما فيها تصريحات أبو الغيط في الولاياتالمتحدةالأمريكية، يعتقد أن مصر تتعرض لهجوم من دولة كبرى أو أنها تواجه خطرا داهما، لكن القضية وما فيها، حادثان صغيران لا شأن كبير لهما؛ الحادث الأول، تعلق بأطفال فلسطينيين تظاهروا من فوق أرضهم، على الحدود المصرية، ضد الجدار العازل الذي تنشئه مصر تحت الأرض وضد العراقيل التي أقامتها هذه الدولة العربية »الشقيقة« في وجه قافلة شريان الحياة. أما الحدث الثاني فهو من خلق السلطة المصرية نفسها إذ عملت على وضع عراقيل لا تعد أمام قافلة شريان الحياة التي تحمل المساعدات للفلسطينيين المحاصرين في غزة. قائد القافلة، جورج غالاوي، وهو نائب في البرلمان البريطاني لا يفهم العقلية المصرية، أو لم يستطيع فهم هذه العقلية مما جعله يصرح للصحافة متسائلا لماذا تتصرف السلطة في مصر بهذه الطريقة؟ والعجيب أن غالاوي استعمل عبارة تعني أنهم، أي المصريين، لا يتصرفون بالمنطق. المنطق، هو علة السلطة المصرية والعنصر الغائب في كل قراراتها. السياسيون العرب المتتبعون للشأن المصري، كثيرا ما يتساءلون: لماذا يتصرفون، في مصر، بهذه الطريقة؟ لماذا يتخذون مثل هذه القرارات؟ وطبعا؛ تبقى التساؤلات مطروحة دون إجابة. جورج غالاوي، الذي أكاد أسميه بالحاج غالاوي، يشقى ويكد في جمع التبرعات من العالم أجمع وينظم قوافل حاملة للمواد الغذائية والدواء والأغطية، ويقطع بها نصف الكرة الأرضية، وفي كل البلدان التي يحل بها يستقبل بحفاوة وتقدم له التسهيلات اللازمة لعبور أراضيها، ونذكر هنا أن إحدى القوافل لما وصلت إلى الحدود الجزائرية مع المغرب، سمحت لها الجزائر بالمرور رغم أن الحدود مع هذا البلد مغلقة ولم تفتح منذ سنوات، كما استقبلت )القافلة( في كل المدن الجزائرية التي مرت بها بحفاوة تامة. هذه القوافل، بمجرد أن تصل الحدود المصرية، يتغير عليها الحال إذ تتعرض لكل أنواع المضايقات. في كل مرة، تضع السلطات المصرية العراقيل أمام جورج غالاوي حتى لا يكرر »فعلته« بتنظيم القوافل الحاملة للمساعدات للغزاويين الذين يتعرضون للمجاعة بفعل الحصار المضروب عليهم من الجانب المصري. كل هذا معروف، وقد تعود عليه حتى الرأي العام العالمي الذي يتابع في كل مرة وعبر القنوات الدولية مسار القوافل فوق الأراضي المصرية، لكن الذي حدث هذه المرة يتجاوز كل منطق، فالقافلة التي وصلت، عن طريق تركيا ومنها إلى سوريا فالأردن، جاءتها، عند الوصول إلى العقبة، "أوامر" الحكومة المصرية بدخول مصر عن طريق العريش، مما يعني العودة من الأردن إلى اللاذقية بسوريا للإبحار إلى العريش أي بقطع مسافة 1800 كم أخرى تكلفتها حوالي نصف مليون دولار أمريكي. وهو ما قام به غالاوي ورفاقه بعد أن سددت تركيا وبعض الدول الخليجية نفقات تحويل اتجاه القافلة. لكن بمجرد الوصول إلى ميناء العريش بدأت المشاكل الحقيقية: تعرض غالاوي ورفاقه المسيحيين واليهود والمسلمين للإهانات والمضايقات، كما تم لاستيلاء على العديد من السيارات بما فيها السيارة الشخصية لغالاوي الذي أقتيد بطريقة بوليسية إلى مطار القاهرة حيث رحل إلى بلده بعد أن أعلن له بأنه أصبح شخصا غير مرغوب فيه في مصر. حادثة القافلة تزامنت مع قيام أطفال غزاويين بالتظاهر على الحدود مع مصر، وخلال المظاهرة أصيب جندي مصري برصاصة تقول مصر أنها أطلقت من الجانب الفلسطيني وتصر على أن تقوم حماس بتقديم الاعتذار لمصر على قتل الجندي المصري. الحدثان البسيطان، جعلا مصر تعيش فترة من فترات ما يسمى عندهم بالشحن الإعلامي، إذ مرة أخرى، وبعد فترة قصيرة جدا من بداية فتور حماس الدعاية البايخة والمتخلفة التي وجهت نحو الجزائر وشعبها، يعود ما يسمى عندهم بالإعلام للقيام بحملة أخرى من أجل الدفاع عن »كرامة« مصر و»سيادتها«، في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام الدولية تنقل تصريحات غالاوي المستغرب من المواقف المصرية والعاجز، بعقليته الأوروبية الكارتزية، عن الإجابة عن سؤال بسيط: لماذا يتصرف المصريون بهذا الشكل؟. مع أن الجواب واضح وبسيط جدا. تكفي العودة لنصوص اتفاقية كامب ديفيد لإيجاد كل عناصر الجواب، وقد سبق وأن ذكرنا بعض بنود هذه الاتفاقية التي تكبل مصر وتجعلها حامية لأمن إسرائيل. مصر لا تستطيع، طبقا للاتفاقية، بأن تسمح بمرور أية مساعدات لكل من يعادي إسرائيل أو يساهم في تهديد أمنها، وما دام سكان غزة يساندون حركة حماس التي تؤمن بالمقاومة، فأن مصر ملزمة بتجويع هؤلاء وحرمانهم من أبسط ضرورات الحياة حتى يقبلوا بسلم مهين مع إسرائيل ويتحولون، كما هو شأن مصر، إلى حماة لأمن الصهاينة. يومها، تسمح مصر بمرور المساعدات التي يقول أبو الغيط، من الولاياتالمتحدةالأمريكية، أنه يجب أن تمر من الآن فصاعدا عن طريق الهلال الأحمر المصري مما يعني ببساطة أن كل الدول والجمعيات والمنظمات التي تعودت على تقديم المساعدات للفلسطينيين ستتوقف عن ذلك لأنها تدرك مسبقا بأن أية مساعدات تمر عبر المؤسسات المصرية فهي لا تصل أبدا لأصحابها الحقيقيين، ولا داعي للتذكير بقضية اللاجئين السودانيين بمصر الذين تعرضوا، قبل خمس سنوات، لأبشع أنواع التنكيل عندما اعتصموا بإحدى ساحات القاهرة مطالبين بالمبالغ المالية التي كانت الهيئة الدولية لإغاثة اللاجئين ترسلها إلى كل لاجئ سوداني )جنوبي( بمصر وكانت السلطات المصرية تستولي على جزء معتبر منها. القضية تناولتها صحف ذلك الوقت ويكفي الرجوع إليها لإدراك أن السلطة في مصر هي كالمنشار، يأكل في كل الاتجاهات )طالع واكل نازل واكل(، كما يقول المثل عندهم.