كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلا عندما قررنا التنقل إلى الأحياء الساخنة بمدينة بريان، التي كانت مسرحا لمواجهات عنيفة انتهت بضحيتين وخسائر مادية معتبرة ألحقت بالممتلكات ...هناك في "كاف حمودة" أو "مداغ" أو "باب السعد" اصطدمنا بنفس الأجوبة عند استفسارنا عن حقيقة وخلفية الوضع "لا ندري ..لا نفهم...لا.." * حزام أمني من 1100 دركي لمنع التصادم بين الإخوة الفرقاء * * * أجمع جميع من اقتربنا منهم على أن "الإباضية والمالكية بريئون من الفتنة" و لم نجد تفسيرا حقيقيا لما يقع طيلة شهرين كاملين ونحن نعاين في هذه الأحياء "التضامن" بينهم وحرص كل طرف على عدم إلحاق الأذى بالآخر ... قيادة الدرك الوطني قامت بتجنيد 1100 دركي استقدمتهم من وحدات التدخل التابعة لعدة ولايات قاموا بتشكيل حزام أمني بالنقاط الساخنة لمنع التصادم بين الإخوة الفرقاء وكذلك لسرعة التدخل واعتمد رجال الدرك على العمل الجواري في هذه الأحداث، حسب ما عايناه ميدانيا ووفقنا إليه في هذا الربورتاج، على العراقيل التي تواجه مصالح الأمن في التدخل، خاصة أعوان الحماية المدنية... * * ماذا بعد سحب التعزيزات الأمنية؟ * * عاد الهدوء تدريجيا إلى أحياء مدينة بريان بعد أن خفت المواجهات، لكن الآثار لاتزال شاهدة على ما حدث قبل حوالي أسبوع وخلف ضحيتين وخسائر مادية معتبرة رائحة الدخان التي كانت تنبعث من الأزقة لاتزال قائمة تخنق الزائر، وكانت وجهتنا الأولى حي "باب السعد"، ويقول سكان المنطقة إنه كان مثالا للتعايش بين المالكيين والإباضيين، بدليل أنه يجمل اسما يجلب الحظ والأمان، لكنه كان هذه المرة مسرحا لأحداث عنيفة بعد أن انقلب الوضع بسرعة ودون سابق إنذار واصطدمنا بنفس الجواب لدى السكان "لا نعرف ولا ندري ." وجدنا مجموعة من الشباب منتشرين في أزقة هذا الحي الذي وجدنا صعوبة في الولوج إليها، بسبب الحجارة المنتشرة في كل مكان وبقايا الزجاج ..آثار الحريق كانت بادية على جدران السكنات ووجدنا هيكل سيارة تعرضت للحرق في مستودع فيلا وبقايا أمتعة محروقة أمام مدخل بعض المنازل التي تعرضت إلى اعتداءات وهجرها سكانها بعد أن تمكن بعضهم من أخذ بعض ممتلكاته.. والحي يقيم فيه المالكيون والإباضيون ... حيث لم تغادر عائلات إباضية المكان وكذلك المالكية .. * على طول الأزقة انتشر أفراد مكافحة الشغب التابعين للشرطة وعلمنا من السكان أنهم مرابضون بهذا المكان منذ عودة المواجهات الأخيرة نهاية الأسبوع الماضي "نحن نشعر بالأمن لوجودهم وفعلا منذ استقدامهم لم تحدث مناوشات خطيرة، لكن ماذا بعد رحيلهم؟"تساءل شباب تسابقوا للحديث إلينا والتبرؤ مما ينسب إليهم وكان كل طرف يؤكد أنه كان الضحية وبرر أفعاله ب"الدفاع عن النفس" وأجمع الطرفان على أن أخطر ما وقع هو "اعتداء على المنازل والحرمات" في سابقة أولى ويرهنون حل الأزمة ب "تدخل مصالح الأمن". * وقال شباب حي باب السعد "تدهور الوضع عندما تحولت اعتداءات علينا برمي قارورات "المولوتوف" من أسطح المنازل ..كانوا يرصدوننا ليقوموا بالاعتداء علينا في حدود الساعة الثالثة صباحا قبل صلاة الفجر ويستغلون وجودنا نياما "واستشهدوا بطفل في الرابعة عشر من عمره أطلعنا على حجم الحروق التي أصابته جراء رمي قارورة "مولوتوف" عليه داخل منزله، فأصابته "كان يجب نزع قميصه بسرعة "الإصابات كانت بليغة، لكن السكان يتحدثون عن الضرر النفسي واللااستقرار "نحن لا ننام ولا نذهب للعمل خوفا من تعرض منازلنا للنهب وعائلاتنا للاعتداء" .. * * * عائلات متشردة.. مساكن مهجورة وأرباب يتحولون إلى حراس الليل * * في هذه الأحياء تحول عديد من الشباب إلى "حراس الليل" وهو الوضع الذي عايناه خلال جولة ليلية في هذه الأحياء، وبدت مدينة بريان هادئة وآمنة لولا مخلفات الشغب، خاصة بحي "كاف حمودة" الذي يعد أكثر الأحياء تضررا نظرا لكثافته السكانية وأيضا لأزقته الملتوية ويمكن لأي زائر أول مرة له أن يضيع بسهولة ...وجدنا رجال الدرك في كل مكان وتم نشر قوات مكافحة الشغب بالمداخل والأزقة الضيقة وأمام المساكن .. * وأوضح النقيب سلطاني قائد الكتيبة الإقليمية للدرك الوطني لغرداية، الذي رافقنا في هذه الجولة، أنه تم اعتماد مخطط أمني محكم لإحباط أي مواجهات واعتداءات بتجنيد دوريات متنقلة وأخرى راجلة تقوم باستطلاع الأحياء وتمشيطها لضبط أي تحركات مشبوهة، إضافة إلى أفراد مرابطين في مواقع حساسة تشكل "مراكز عبور" المشاغبين. * سألنا النقيب سلطاني عن خلفية تأخر التدخلات وهو الانشغال الذي طرحه علينا السكان في عديد الأحياء، ليشير إلى ضيق شوارع الأزقة، ما اضطر في عديد من المرات رجال الدرك إلى التدخل راجلين "في بعض الحالات كنا ندخل الحي فرادى، دركي وراء الآخر، لأن الشارع ضيق جدا وهذا كان يستغرق وقتا". * وطرح النقيب في هذا السياق العراقيل التي تواجهها القوات في تدخلاتها منها توزع المشاغبين على عدة مواقع مع غلق المنافذ المؤدية إليها، كما اعتمد المشاغبون على قطع التيار الكهربائي قبل حرق المنازل والممتلكات ليسود الظلام المكان، إضافة إلى البلاغات الكاذبة التي تفيد بوجود أعمال تخريب "نحن نتلقى البلاغ ولا يمكن التأكد من صحته أو عدمها ونحن ملزمين في كل الحالات بالتدخل، لكننا نواجه ميدانيا عدم صحتها وأحيانا يكون الهدف تحويلنا عن المكان الحقيقي للأحداث لنتأخر في التدخل"، مشددا على أن مصالحه تحرص على سرعة التدخل للتخفيف من الخسائر. * إلى ذلك، أطلعنا النقيب سلطاني على بعض المواقع التي كانت مسرحا للأحداث وصعوبة التدخل، خاصة بعد لجوء المشاغبين إلى قطع الطريق أمام قوات الأمن بوضع مواد البناء، خاصة الآجر والإسمنت والرمل، ما يحول دون دخول سيارات وشاحنات التدخل وطرح مسؤول الحماية المدنية هذا الإشكال بإلحاح لصعوبة دخول سيارات الإسعاف لإخماد النيران أو إنقاذ العائلات المصابة واهتدى المشاغبون إلى طريقة أخرى لمنع التدخل بتجنيد أفراد لرشق أفراد الأمن بالحجارة، خاصة في الأزقة الضيقة، لكن الوضع يعرف استقرارا بعد وصول التعزيزات الأخيرة، حيث سجلنا تطويق عديد من الأحياء برجال الدرك الذين كانوا منتشرين فيها بألبستهم وقبعاتهم تعكس حالة الاستنفار في المنطقة، لكن وجودهم يثير الطمأنينة لدى السكان، حسب تصريحاتهم .. * وتكون الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما دخلنا حي "مداغ" الذي شهد مواجهات عنيفة أيضا، خلفت مقتل الشيخ داغو عيسى 72 عاما، الذي تعرض إلى طعنات خنجر على مستوى الرقبة والبطن والظهر أمام مقر بيته ... هنا أيضا وجدنا مجموعات من الشباب مجتمعين أمام منازلهم حول ابريق شاي منهم مالكيون واباضيون لا يبعدون عن بعضهم إلا بحوالي 100 متر ويحرص رجال الدرك على الانتشار هنا "لمنع التصادم بين الطرفين" في حال وجود استفزازات أو مواجهات في موقع آخر .. * كلاهما يعيش نفس المأساة في نفس الحي بعد تخريب بيته أو محاولة ذلك، ليضطروا إلى ترحيل عائلاتهم والإقامة هنا "كعزاب" بعيدا عن نسائهم وأولادهم .. وجدنا مالكيين يتناولون الأكل خارجا على طاولة في الشارع، وعلى بعد أمتار فقط إباضيون يفعلون نفس الشيء..و اعترف الطرفان بصعوبة الوضع بعيدا عن الاستقرار العائلي وجو البيت ...عديد منهم لا يعملون مؤقتا ويتكفلون بحراسة مساكنهم .. سألناهم: لا يوجد خلاف ولا حقد ولا صراع، إذن لماذا الاقتتال؟ ليؤكد كل طرف أنه لا يفهم ما يحدث. * وقال إباضي ثائر "الإباضية والمالكية بريئتان مما يحدث في بريان ولو خرج الإمام المالكي والإمام الإباضي لتبرأا منا". وأضاف آخر "الإسلام بريء ولا صراع مذهبي أو ديني في بريان"، لكن الجميع يقول إن "ما علابالناش واش صاري" والحل يبقى، حسبهم، بيد أجهزة الأمن واعترفوا" منذ مجيئ الدرك أصبحنا ننام ونرتاح قليلا "لكن ما يؤرق السكان هنا هو مستقبل الوضع ومصيرهم بعد رحيل هؤلاء "رفضنا عودة عائلاتنا إلى الديار خوفا من انسحاب قوات الأمن لاحقا، لأننا نتوقع أي شيء ونخشى تأزم الوضع "وذهب شيخ إلى القول "نحن مستعدون للتكفل بهم (يقصد رجال الدرك) على أن يبقوا هنا ... سألته، لكنهم لن يظلوا إلى الأبد.؟ ليجيبوا: أن هذا هو المشكل اليوم. وكانت السلطات قد قامت مؤخرا فقط بإنشاء مركز أمن دائرة بعد الأحداث الأخيرة، لكنه يبقى غير كاف لضمان تغطية بلدية يقيم فيها أكثر من 35 ألف نسمة في غياب مراكز تابعة للأمن الحضري ...