آه يا عراق.. عراق البشر والحجر والطير والنخل الباسقات ذات الطلع النضيد، كنت قبلنا وستبقى بعدنا.. كنت للتاريخ منارة وحكماً ومدارس فقهية وفلسفية، وكنت أيضا الحضارة واللغة والعمران، صنعت أحداث الدنيا عند ميلاد اللغة نقشاً وسمعاً وتجاوباً، فكيف فرطنا بك بهذه السهولة لأعداء توارثوا البطش هم من سلالات همجية، حولت يوماً ماء دجلة و الفرات إلى دماء وحبر؟ * * أيها الغالي: أعرف أنك ستعود يوماً أقوى مما كنت، وأن الضلالة والعمى وطغيان الهوى عند أهلك، وجيرانك، مجرد سحابة صيف قد تطول في عمر البشر ، لكنها ستظل بالرغم من عدد الضحايا أقصر عمرا منك وأقل مددا. * يكبر جرحك داخلنا مع الأيام، فيتداوى يومياً بمئات الشهداء، الذين نسموا من خلالهم في الدنيا، ويحيون هم في عالم الخلود بشهادتهم، وتحيى أنت أيضاً بفعلهم، لذلك يتعذر علينا نسيانك أو تجاهلك، وكيف يحدث هذا ونحن نحارب في أرزاقنا داخل دولنا العربية لأننا قلنا في الماضي القريب لا للحرب عليك، ولا لبيع أمة بأكملها للشيطان، ولا لعار يصعب محوه مع تغيرات الزمان، ولا لعودة استعمار عجز في كل بقاع الدنيا، وآتته أمتنا طائعة خاضعة؟! * هل تعلم يا عراق بأننا في رفضنا للرداءة في الإعلام، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وحتى في العلاقات.. نحارب على جبهات متعددة قوى الشر داخلنا وهي تتربص بنا وتحاصرنا وفي الغالب تهزمنا، ولكنها ما استطاعت لحظة قتل العزيمة داخلنا؟ * هل يعلم المصريون مثلاً، أن اتساع الهوة بين طبقات المجتمع وسيادة سلطة مطلقة من نظام هو مثل سفينة تتقاذفها الأمواج في يوم عاصف، سببه احتلالك؟ * وهل يعلم السودانيون، أنه لولا احتلالك ما بلغ الصراع الدموي في دارفور ذروته، وقد أوقدت ناره قوى الغرب بعد أن وجدت تربة الظلم صالحة لتدمير الدولة، ولولا احتلالك ما كان الخلاف في لبنان، ولا الحصار على سوريا، ولا حتى الفساد في الجزائر؟ * وهل يعلم أهل اليمن، شماله وجنوبه، أن محاولات تقسيمك المتواصلة هي الدافع القوي لما تستجيب له الأنفس بغية فصل الجنوب عن الشمال؟ * وهل يعلم مرشد الثورة الإيرانية "علي خامنائي" والرئيس المنتخب "محمود أحمدي نجاد" أنه لولا الفعل الجهادي في العراق، الذي ساهمت بلادهم في تدميره، ما حدثت تلك الضجة أثناء الانتخابات وبعدها؟ * وهل تعلم يا عراق، أن الأمريكيين من أصل إفريقي ما كان لهم ليحققوا حلم الوصول إلى السلطة عن طريق أوباما لولا التغير الذي أجبرت كل صناع القرار في أمريكا عليه؟ * آه يا عراق.. كل الذين اعتقدوا بغرور علو قامتهم دولاً وقادة، نراهم اليوم يركعون بعد احتلاك، وبقيت أنت وحدك تحارب على عدة جبهات، صامداً في وجه الدنيا كلها، وباحتلاك لم تعد قضيتنا المحورية فلسطين خاصةً بعد تقاتل أهلها حين غدى الحكم أولوية عندهم عن الثورة. * ما أقوله هنا في حقك ليس حلماً.. بل إنه علم، ومع أن (لو) تفتح الباب للشيطان، إلا أننا نرى معارك العدالة الدولية مبقية على بعض من جوانب الإنسانية، وبعد احتلاك تغيرت كل المفاهيم وتغيرت معها العلاقات أيضاً. * عراق يا ذكريات المتنبي في (واسط) عشت على أمل زيارتك يوماً، وحين تحقق ذلك عام 1994 وجدتك محاصراً صابراً منتظراً لحظة الحسم، الله وحده يعلم أنني ما اختصرتك يوماً في قائد، ولا مفكر ولا فقيه، وحين كنت أحفظ في صغري شعر "معروف الرصافي" استجابة لمناهج التعليم في الجزائر كنت أرى من خلال ذلك عالم القيم في تجلياته، ومن مجلاتك العابرة للحدود والواصلة إلى الجزائر في عهد الرئيس بومدين، تكونت لدي خلفية عن التاريخ والقضاء والفلسفة والعمران والأدب، وحين سعدت بلقاء الشاعر الكبير "الجواهري" ذات يوم في الأردن مع الصديق الأديب عبد العالي رزاقي المجنون بالأدب والسياسة والفكر أحسست أننا نحتضن العراق كله. * أراك اليوم يا عراق صانعاً للحدث، وإن رآك أهلك بغير هذا، صحيح أننا لم نمد يد المساعدة للمقاومة ولم نبتغ إليها سبيلاً، ولكنها تسكن الأعماق فينا، والأهم أن تظل حياً في القلوب، فتفرض الاحترام وكيف لا وقد ولى قادة دولنا الأدبار في معركة حاسمة، ولم يكونوا في ذلك متحرفين لقتال، مبرراتهم أن يدي العراق أوكتا وفوه نفخ منذ عقود، غير أن رياح المقاومة آرها تعصف بهم بعيداً وستهوي بهم في بئر سحيق.. وسيدفعون ثمن خطيئتهم الكبرى لعلهم يعون دروس السقوط من الماضي البعيد. * يا عراق.. لا قيمة لنا بدونك، حتى لو ارتفعت الأصوات في عواصمنا من قادة الرأي على جثث شهدائك ناعقة كالبوم.. إنك الحب الأبدي ولو كرهوك، وموطن العطاء حتى حين منعوك، فيك تزيّن العقل بالدين، وسادت اللغة العربية فكانت وجه الحضارة، وعرف الناس فيك معنى الشهادة، وهل هناك ما هو أهم منها من منظور الإيمان؟.