عندما استخلف القائد مصطفى بن بولعيد نائبه بشير شيحاني على رأس منطقة الأوراس في 23 يناير 1955، أوصى مساعديه الأقربين وهما عاجل عجول وعباس لغرور به خيرا، لاسيما أنه غريب عن المنطقة وليس وراءه عرش يمكن أن يحميه. * وقد أوصاهما بصفة خاصة "أن يستفيدوا من ذكاء" هذا الشاب المسيس مزدوج اللغة، والذي أثبت كفاءة نضالية تتجاوز سنه الطبيعي إلى حد كبير. * وغداة أسر قائد المنطقة في 11 فبراير الموالي على الحدود التونسية الليبية، كان نائبه شيحاني يتأهب لنقل مقر القيادة إلى القلعة جنوبخنشلة لترتيب أوضاع ناحية النمامشة، عملا برسالة القائد الأسير من قلب هذه الناحية في 27 من يناير الماضي وهو في طريقه إلى طرابلس. * ويكتسي ترتيب أوضاع الناحية أهمية قصوى، لأنها تشكل عمليا مفتاح تنظيم الإمداد بالأسلحة عبر الشريط الحدودي، لاسيما بعد تجديد الاتصال بالوفد الخارجي في أبريل من نفس السنة. * غير أن نقل مقر القيادة إلى القلعة لم يتلق التفهم المنتظر، لاسيما من الجماعة التي تكتلت غداة أسر بن بولعيد حول شقيقه عمر. فقد رأت هذه الجماعة في ذلك نوعا من بداية التهميش لناحية الأوراس لصالح ناحيتي خنشلةوتبسة.. وراحت بناء على ذلك تمارس شتى الضغوط على قائد المنطقة بالنيابة، حتى أذعن لها في بداية مارس بتعيين عمر بن بولعيد رئيسا شرفيا للمنطقة كما سبقت الإشارة في الحلقة السابقة. * هذا القرار المفاجئ أغضب في حينه عناصر بارزة في الهيئة التي استخلفها على المنطقة قائدها الأول مصطفى بن بولعيد عشية خروجه باتجاه طرابلس، نجد في مقدمتها عاجل عجول ومصطفى بوستة. * * عجول نظرا لحزازات شخصية - تعود إلى ما قبل الثورة- مع عمر واثنين على الأقل من "كتلته" وهما مسعود عياسي والطاهر عمراس النويشي * * بوستة وفاء لوصية سي مصطفى عشية مغادرة المنطقة - فقد أوصى صراحة بتجنب إسناد مسؤوليات هامة لبعض النماذج من المكافحين أمثال: * - شقيقه عمر الذي كان يرى أنه لا يتوفر على قدر من الحنكة السياسية، يؤهله لتسيير الرجال في المواقف الصعبة. * - مسعود بالعڤون لكبر سنه، والذي كان ينصح بالاستفادة من خبرته النضالية والاسترشاد بإشاراته. * - الحاج لخضر عبيدي، لما كان يتميز به من حدة في الطباع وخشونة في المعاملة، اعتبر عجول إسناد الرئاسة الشرفية لعمر بن بولعيد خطأ فادحا، علما أنه كان يعتقد من قبل استخلاف شيحاني - نائب سي مصطفى- كان "استخلافا صوريا"! ناسبا إلى هذا الأخير قوله له شخصيا ولعباس لغرور معه:"أن القيادة الفعلية -بعد مغادرته- تؤول إليهما نظرا لصغر سن نائبه"! * وبناء على هذا الاعتقاد - الخاطئ- بدأ يحاول ممارسة "السلطة الفعلية"، ومن الخطوات الأولى في هذا الاتجاه المبادرة بتفكيك فصيلة حرس إدارة المنطقة التي كوّنها سي مصطفى وكان من أبرز عناصرها الجودي بيشة (بوسنة) وتطعيم الفصيلة المذكورة بعدد من رجاله. * وقد سارع هذا الأخير بتنبيه قائد المنطقة بالنيابة إلى ذلك، فكان رد فعله أن شكل حرسا جديدا أسند قيادته إلى الحاج محمد كربادو.. وقد خلفه في هذه المهمة شقيقه علي، بعد استشهاده في اشتباك تافسور أواخر يوليو 1955. * * تفطن شيحاني.. لطموح عجول * * وفي ربيع نفس السنة تفطن شيحاني إلى طموح عجول - وما يمكن أن يترتب عليه- فخاطبه أثناء مروره بناحية حاسي أمسلام قائلا: "يا عجول! سنلتقي في الحياة أو في الآخرة! اعلم أن كلمة سي مصطفى مقدسة، علينا باحترامها مادام حيا، فإذا توفي مادمتُ حيا!". * وبعد اجتماع عبّاس (كيمل) في 10 مايو - والذي تغيب عنه شيحاني لوجوده في جولة مراقبة ناحية النمامشة- خطأ عجول خطوة ثانية بعد أن التحق به عباس لغرور هذه المرة، باتجاه دعم "سلطتها الفعلية" على حساب قائد المنطقة بالنيابة! * وشهدت صائفة 1955 تدهورا في علاقات هذا الأخير بمساعديه الطموحين: * - وجه عتابين لعجول في يوليو ومنتصف أوت، تلا ذلك إبعاده عن معقله بناحية كيمل - حيث عائلته وعرشه السراحنة - وتعويضه بعبد الواحد (أو الحفيظ؟) السوفي.. وقد كلف بالمناسبة بملازمة مقر القيادة بالڤلعة لاستقبال أعوان الاتصال.! * - وأغضب لغرور في نفس المناسبة، ما جعله يترك مقر القيادة مفضلا العودة إلى ساحات القتال ناحية خنشلة- * في مثل هذه الأجواء المتوترة -نسبيا- على مستوى قيادة المنطقة الأولى بادر شيحاني بتنظيم "يوم مفتوح على الثورة" بوادي أهلال.. وكانت هذه المبادرة "خطأ آخر" في نظر الثنائي عجوز - لغرور خاصة. لاسيما بعد أن شن العدو إثرها "عملية تيمڤاد" التي أدت إلى معركة الجرف الأولى الشهيرة. * وتمثلت العملية - حسب شهادة عجول- في تمشيط واسع لناحية النمامشة من الحدود شرقا إلى وادي العرب غربا، مع ضرب حصار محكم على ناحية وادي اهلال خاصة لمعرفة العدو بوجود قيادة المنطقة هناك. * وقد جند في العملية وحدات قطاع تبسة - البرية والجوية- مدعومة بنجدة من تونس قوامها فيالق، فضلا عن فيلق مشاة من اللفيف الأجنبي ووحدة من "الڤوم" المغاربة حسب المصادر الفرنسية. وتقدر ذات المصادر عدد الثوار بنحو 200 بينما يؤكد مشاركون في المواجهة من جانب الثوار أن العدد يناهز 300. * وغداة "اليوم المفتوح على الثورة" برأس الطرفة -على نحو 8 كلم من الجرف- في غضون الأسبوع الثالث من سبتمبر 1955، أخذت أفواج جيش التحرير التي حضرت المناسبة تعود إلى مواقعها تباعا. وقد تمكنت الأفواج الأولى من تفادي كماشة العود، كما هو حال أفواج لزهر شريط والزين عباد وحسن مرير الذي وقع فوجه مع ذلك في كمين قاتل. * غير أن الإنذار الجدي صدر يوم الخميس 22 سبتمبر عندما اصطدمت المجموعة المكلفة بالتموين بقيادة محمد بن عجرود بالحصار ناحية فرطوطة، وأرسلت في طلب النجدة.. وقد أدركت وحدة النجدة خطورة الحصار فعادت أدراجها باتجاه الجرف.. وبناء على هذه المعلومات أمر شيحاني مساء نفس اليوم الأفواج التي ما تزال مع مجموعة القيادة بالتحرك جنوبا باتجاه مسحالة بعد إخفاء الوثائق والعتاد والتموين.. وتهريب جزء من الوثائق ومبالغ مالية إلى الخناڤ لكحل (الجبل الأبيض) حيث علي كربادو مسؤول حرس الإدارة ..لكن في الطريق إلى مسحالة تعرضت مجموعة القيادة إلى قصف مدفعي، اكتشفت إثره أنها محاصرة أيضا.. وبعد دراسة الموقف جيدا واستشارة أركان المنطقة قرر نائب بن بولعيد التراجع نحو الجرف، والاعتصام بمغاراته الحصينة التي كان قائد الناحية بشير ورتان (سيدي حني) قد أعدها لاستقبال شيحاني ومرافقيه. * * معركة..الجرف * * وصل الجمع إلى الجرف في حدود الواحدة من ليلة الجمعة، فأمر شيحاني بنشر جهاز أمن حول المكان فورا، للتذكير أن الجرف يقع في الجبل الأبيض ويشقه وادي أهلال، وهو الآن تابع لبلدية السطح دائرة العُڤلة (ولاية تبسة). وقد اعتصم شيحاني مع طاقم القيادة بإحدى مغارات الضفة الشرفية للجرف، بينما توزع الباقون على بقية المغارات في نفس الضفة وفي الضفة الغربية المقابلة كذلك. * وفي العاشرة من صباح الجمعة تسللت وحدة فرنسية إلى الجرف من الجنوب عبر رافد صغير، تلاها بعد فترة قصف مدفعي مركز خاصة على مغارات الضفة الغربية، وقد استمر حتى مساء الجمعة. * وفي ليلة السبت ترأس شيحاني بمغارة القيادة اجتماعا لأركان المنطقة بحضور قادة الأفواج، انتهى إلى قرار مواصلة الاعتصام بنفس المكان، واستؤنف القصف المدفعي بكثافة المغارات الغربية دائما طوال 24 سبتمبر ليشمل في اليوم الموالي المغارات الشرقية، وإن ظل الطيران يركز على الضفة الغربية. كما شهد نفس اليوم محاولة زحف بري على المغارات، يقول الشاهد سالم بوبكر- ممرض قيادة المنطقة- أن جنود جيش الاحتلال تكبدوا خسائر فادحة، لأنهم لم يحسنوا استعمال القنابل الدخانية لتغطية زحفهم. * وفي ليلة الإثنين 26 ديسمبر اجتمعت أركان المنطقة، تلاه اجتماع عام تقرر خلاله الانسحاب في ذات الليلة بواسطة إحداث ثغرة في صفوف العدو مهما كلف ذلك من ثمن. وتعتمد خطة اختراق حصار العدو على كثافة النيران التي تلفظها الرشاشات الثقيلة والخفيفة والتي آلت إليها مهمة الزحف في المقدمة.. وعاد الصنف الثاني حسب نفس الخطة إلى حملة البنادق.. ويؤكد عجول في هذا الصدد أن مقدمة الزحف آلت إلى الأسلحة الثقيلة التي يقود حامليها لغرور بينما قاد هو شخصيا حملة الأسلحة الخفيفة«. * وفي العاشرة مساء اشتعل الوادي فجأة نحو 15 دقيقة، وتمكن الثوار فعلا من إحداث كذا من ثغرة تمكنوا من اقتحام الطوق الأول خلالها. وهكذا دواليك مع بقية الأطواق.. * فضل شيحاني البقاء في مغارة القيادة الحصينة بالجرف حتى تهدأ العاصفة، وتنسحب قوات الاحتلال دون تحقيق هدفها في القضاء على قيادة أوراس - النمامشة .. وكانت مصرة على هدفها هذا، بدليل استعمال قنابل "النابالم" الحارقة في قصف مغارة القيادة. * مكث هناك أربعة أيام، ليخرج بعدها رفقة عدد محدود من مساعديه بمساعدة فوج الزين عبّاد.. وقد التحق بالثنائي عجوز ولغرور في ناحية العمرة.. وكانا قد قررا فيما بينهما مصير شيحاني لترسيم سلطتهما الفعلية في قيادة المنطقة..ويسجل الجودي بيشه في هذا الصدد أن عجول ولغرور كانا يستشيطان غيظا.. * * خيانة..عهد.. * * وفي حدود 20 أكتوبر 1955 جمع شيحاني مساعديه بالڤلعة حيث تم تقييم الموقف بعد معركة الجرف، وتحديد حصيلة الخسائر والغنائم وفي مقدمتها حصر عدد الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف. * ويبدو من خلال بعض المشاريع التي كان يعتزم إنجازها أنه خرج من المعركة بمعنويات مرتفعة، فقد كان يعتزم الاهتمام بالناحية الغربية من المنطقة، بعد أن تمكن من ترتيب أمور ناحية النمامشة وتسوية مشكل الإمداد بالأسلحة، وأخذ يفكر في اختيار مقر للقيادة أكثر أمنا، بعد أن لاحظ أن عيون إدارة الاحتلال تتابع تحركات القيادة بدقة، تؤكد ذلك نجاتها من أكثر من محاولة حصار والقضاء عليها. * ومن اهتماماته أيضا إقامة منطقة حرة، استعدادا لإعلان حكومة جزائرية فيها، عندما تقرر قيادة الثورة أن الوقت قد حان لذلك، حسب استراتيجية لجنة الستة قبيل فاتح نوفمبر 1954. * غير أن اجتماع القلعة ما لبث أن وضعه وجها لوجه أمام مصيره. وشعر بالخطر فخاطب المتربصين به قائلا: "بعد تفكير عميق أصبحت أشعر بخوف شديد على مستقبل الثورة، وكان الأوراس بصدد الانحراف عن الطريق المستقيم .لقد حملني سي مصطفى أمانة إدارة المنطقة- وإلى حد الساعة مازلت المسؤول الأول. * قبل أن يضيف:"إن سي مصطفى أبونا جميعا، وإنني أنوبه لغاية عودته.. لذا أطلب منكم جميعا تجديد العهد معي على احترام إرادته". * وفعلا حصل من مساعديه على تجديد العهد.. وفي محاولة أخيرة لاستبعاد الخطر الذي بدأ يشعر به، أعلن بالمناسبة أنه قرر تعيين عجول على ناحية تبسة، ونقل لزهر شريطة بدله إلى ناحية كيمل، وتعيين لغرور على الشريط الحدودي الممتد من شمال تبسة إلى أم الطبول. * لكن بعد أقل من 48 ساعة حكم عليه بالإعدام من قبل محكمة صورية، لعب فيها عجول دور الرئيس و"الغرّاق" ومنفذ الحكم! ومن شهود الإثبات في "المحاكمة": لغرور، ببانا الساعي (فرحي)، بن بلقاسم. وحضر "المحاكمة" في وضع "الشاهد – الضحية" محمد الشامي من مسؤولي ناحية تبسة والطريف أن مصيره كان حكم الإعدام أيضا! * كان الجودي بيشة قد أشعر علي كربادو مسؤول فصيلة حرس الإدارة بأن عجول ولغرور يريدان شرا بشيحاني.. لكن لم يكن يدري أن هذا الشر سيبدأ به! فقد أطلق عليه الثنائي المذكور النار ليلة 23 أكتوبر ففر بجلده تاركا قائد المنطقة بالنيابة تحت رحمة خصومه الغاضبين. * اعتقل شيحاني في نفس الليلة، وتولى أمره عقب ذلك عجول الذي نقله مقيدا إلى عالي الناس حيث صحراوي بيوش من أقاربه. وهناك أعدم في حدود التاسعة والنصف من صبيحة 23 أكتوبر. * وأعدم معه أيضا محمد الشامي الذي لم تفقده الرصاصة الأولى وعيه، فنبه قاتله بأنه يحمل معه مبلغا من مال الثورة كي يستعيده بعد إنجاز مهمته! وشاءت الأقدار ألا ينتفع عجول ولغرور كثيرا بمقتل شيحاني في الاستحواذ على مقاليد السلطة في أوراس - النمامشة ..لأن القائد التاريخي للمنطقة مصطفى بن بولعيد تمكن من الفرار من سجن المدية مساء 10 نوفمبر الموالي. أي نحو أسبوعين فقط من إعدام نائبه! * وقد تأسف سي مصطفى كثيرا لما علم بذلك ..تأسف لمقتل شاب مثالي في إيمانه بقضية وطنه، وضع كل ما يملك من موهبة وخبرة وتضحية بالنفس في خدمة ثورة فاتح نوفمبر المجيدة.