مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المرتقبة في الرابع من ماي المقبل، استشعرت السلطة المسؤولية وراحت تبحث عن السبل التي من شأنها "جر" الجزائريين إلى صناديق الاقتراع، لمسح المصداقية المطعون فيها التي ظلت ترافق المجلس النيابية خلال العهد التشريعية الأخيرة. هاجس العزوف عن العملية الانتخابية، تجلى من خلال تهديد وزير الداخلية والجماعات المحلية، نور الدين بدوي، بسحب الاعتماد من الاعتماد من الأحزاب التي قررت المقاطعة والدعوة إليها، وقبل ذلك استجابت رئاسة الجمهورية لبعض مطالب الأحزاب السياسية في شقها المتعلق بشفافية ونزاهة الانتخابات، واستحدثت هيئة مدسترة وهي الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات، التي أسندت رئاستها لعبد الوهاب دربال.. فهل ستساهم هذه الإجراءات والتدابير في رفع نسبة المشاركة في تشريعيات ماي المقبل؟ ومن يتحمل مسؤولية نسبة المشاركة المتردية، هل السلطة وحدها أم أن للأحزاب مسؤولية كبرى في ذلك؟ وكيف السبيل إلى رفع النسبة إلى ما فوق الخمسين بالمائة؟ وما أسباب العزوف؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عنها.
لديهم ما يشغلهم والسياسة آخر الإهتمامات العازفون.. من هم وماذا يجمعهم؟ دخل التحضير للانتخابات التشريعية مراحل متقدمة بشروع الأحزاب والمترشحين الأحرار في سحب استمارات الترشح من مصالح وزارة الداخلية، غير أن الهاجس الأكبر الذي يرهق الإدارة يبقى عزوف الناخبين عن صناديق الاقتراع، الذي بات القاسم المشترك بين مختلف الاستحقاقات. وكانت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في عام 2012، قد شهدت نسبة إقبال متدنية، بحيث توقفت عند حدود ال44 بالمائة من مجموع الهيئة الناخبة، ما يعني أن غالبية الجزائريين فضلوا البقاء في بيوتهم يوم الاقتراع. وبلغة الأرقام، لم يذهب لصناديق الاقتراع أزيد من 12 مليون جزائري، فيما كان عدد الذين أدلوا بأصواتهم في حدود تسعة ملايين ناخب فقط، وهذا يسميه البعض "عزوفا"، أما البعض الآخر ممن قاطعوا العملية الانتخابية من السياسيين فيسمونه "مقاطعة". انشغال وزارة الداخلية ومن ورائها الحكومة هذه الأيام منصب حول التفكير في السبل التي من شأنها تحفيز الناخبين وخصوصا ال12 مليون ناخب الذين لم يصوتوا في آخر استحقاق تشريعي، ويجسد هذا بعض "الخرجات" غير المحسوبة لوزير القطاع، نور الدين بدوي، الذي هدد بسحب الاعتماد من الأحزاب التي قررت مقاطعة التشريعيات المقبلة.. تصريح قوبل باستهجان كبير من قبل بعض السياسيين الذين اعتبروه تعد على بعض المبادئ الديمقراطية. ومعلوم أن مقاطعة أي حزب لأي استحقاق انتخابي حق مكفول، طالما أن المقاطعة تعتبر موقفا سياسيا، والتعبير عن المواقف مكفول بقوة القانون ما لم تتعد هذه المواقف الخطوط الحمراء المنصوص عليها في الدستور، كتهديد الوحدة الوطنية أو تعريض استقلال البلاد للخطر.. وإلى غاية اليوم لم يعلن سوى حزبين عن مقاطعة الاستحقاق المقبل، وهما "طلائع الحريات"، الذي يرأسه المرشح السابق للانتخابية الرئاسية الأخيرة، علي بن فليس، وحزب "جيل جديد"، الذي يرأسه المعارض جيلالي سفيان، وقد بادرا بالتأسيس لحملة منظمة لدعوة الجزائريين لمقاطعة التشريعيات المقبلة.. ومن غير المستبعد ألا يحاول هؤلاء الاستثمار في نسبة المقاطعة لاحقا. أما الغالبية العظمى من كبار الأحزاب وصغارها فقد قرروا خوض السباق، وهذا معطى يفترض أن يساعد على الرفع من نسبة الإقبال على الصناديق، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تزاحم الأحزاب على المشاركة بجر الجزائريين لصناديق الاقتراع؟ أو بعبارة أخرى: هل للأحزاب المشاركة قاعدة جماهيرية قادرة على قلب الموازين ومن ثم تبديد مخاوف السلطة بخصوص نسبة المشاركة؟ بالعودة إلى الاستحقاقات السابقة نجد أن وعاء كل حزب بات معروف، ما يعني أن ال12 مليون ناخب الذين لم يصوتوا في 2012 لا ينتمون إلى أي حزب، وهنا يمكن الخروج بملاحظة مفادها أن حزب "العازفين" ومجازا "المقاطعين"، هو أكبر حزب في الجزائر. وبالغوص في أعماق "الأغلبية الصامتة" أو "حزب العازفين" عن الانتخابات لتفكيك ألغازه، يمكن القول إن هذا الكيان لا تجمعه مواقف سياسية ولا توجهات إيديولوجية أو مصلحية، وهو عبارة عن خليط بين يائسين من التغيير ومتذمرين من الوضع الاجتماعي المتردي بسبب أزمات السكن، البطالة، الفقر.. وهي معطيات عادة ما تؤثر بنسب متباينة على أداء الممارسة السياسية في أي مجتمع. الأمر الآخر الذي من شأنه أن يضيف متاعب جديدة للحكومة على صعيد إقناع الجزائريين بالنزول إلى صناديق الاقتراع، هو أداء ممثلي الشعب المتواضع، الذين عجزوا أو تقاعسوا في الدفاع عن انشغالات وهموم من صوت عليهم، ولا شك أن هذا الأمر سيلقي بظلاله من دون شك على نسبة الإقبال، لأن فقدان الثقة في المنتخب بسبب جري الكثير من النواب وراء مصالحهم الضيقة، أصبحت القاسم المشترك بين مختلف العهد النيابية. واللافت في كل ذلك هو أن الآفات والأزمات التي يتخبط فيها "حزب العازفين" عن الانتخابات، لا تزال متفشية في المجتمع، بل زادت حدة بسبب الأزمة التي تعيشها البلاد جراء انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية، ما يؤشر على أن المخاوف من ارتفاع نسبة العازفين عن العملية الانتخابية ستزداد في الانتخابات التشريعية المقبلة!!
رئيس جبهة المستقبل عبد العزيز بلعيد: "تشريعيات 2017 فرصة لطرد شبح العزوف" يرى رئيس جبهة المستقبل عبد العزيز بلعيد، أن الانتخابات التشريعية القادمة ستكون فرصة مواتية للسلطة للتكفير عن الأخطاء السابقة، وذلك لن يتأتى إلا من خلال ضمان تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، وإلا فإن العواقب، حسب بلعيد، ستكون وخيمة بتزايد دائرة العازفين عن الانتخابيات والمقاطعين لها، لافتا إلى أن الجزائريين تولد لديهم شعور بالإحباط خصوصا وأن أصواتهم باتت بدون معنى ولا تساهم في التغير ولذا قرروا هجرة صناديق الاقتراع، مثلما قال.
لم يعد يفصلنا عن الانتخابات التشريعية القادمة سوى أقل من ثلاثة أشهر.. هل الظروف العامة للبلاد تساعد على إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع في رأيكم؟ لا علاقة للظروف العامة التي تعيشها بلادنا سواء سياسية، اقتصادية، اجتماعية بالعزوف الانتخابي، لأن السبب الأول في هجر صناديق الاقتراع هو أن الناخب أصبح صوته بدون معنى ولا يغير شيئا في العملية الانتخابية، أو في الوضع العام للبلاد، وبالتالي دائما هناك شعور بأن الانتخابات مشكوك فيها وليست نزيهة، وهو ما يجعل دائرة العزوف الانتخابي تتسع من استحقاق انتخابي إلى آخر، وهو أمر يزيد من فقدان الثقة بين السلطة من جهة والشعب من جهة أخرى.
السلطة ووعيا منها بمحاذير العزوف عن العملية الانتخابية، سعت إلى توفير ضمانات على أمل جر الناخبين للتصويت.. هل الضمانات التي قدمتها لحد الآن، كافية لمطاردة شبح المقاطعة والعزوف؟ في كل محطة انتخابية هناك ضمانات تقدمها السلطة للطبقة السياسية وللهيئة الناخبة عموما، تؤكد على أن الانتخابات ستكون شفافة ونزيهة، لكن المشكل ليس في تشكيل بعض الهيئات المشرفة على العملية الانتخابية، مثل الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات، بل يجب أن يكون قرار سياسي حقيقي يضمن حياد الإدارة من حيث الإشراف على الاستحقاقات أو الإعلان عن النتائج.
وزارة الداخلية تسوق لخطاب جديد هذه الأيام، يتمثل في تطهير القوائم الانتخابية من الموتى وازدواجية الأسماء، أليست هذه ضمانة في رأيكم لمنع التزوير؟ نتمنى أن يكون ذلك ضمانة حقيقية وفعلية، لأننا كطبقة سياسية تعودنا على حملات تحسيسية مماثلة تسبق الانتخابات، وتقدم ضمانات، لكن سرعان ما تذوب خطابات الطمأنة في الماء، ونعيش خذلانا عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات.
هناك أحزاب قررت مقاطعة الانتخابات.. ألا تتحمل تلك الأحزاب جزءا من المسؤولية بسبب خيارها هذا؟ المقاطعة الانتخابية لها أشكال وتعبيرات مختلفة، أحيانا تكون الأسباب ذات خلفية سياسية، وفي مرات أخرى تكون كموقف أو لقلة المنافسة أو بسبب مخاوف النتائج المسبقة، لكن العزوف مرتبط بناخبين لا علاقة لهم بالأحزاب.
هناك من يتهم قادة الأحزاب بأنهم يختارون مرشحين بدون مستوى، وبالتالي يزرعون اليأس في المواطنين بمرشحين غير أكفاء، ما تعليقكم؟ في كثير من الأحيان، الأحزاب تختار إطارات ومن النخبة، لكن في نهاية الأمر لا تجد لها مكانا في الانتخابات، وهذا الأمر جعل النخبة تسحب نفسها من اللعبة السياسية ولا تشارك في العملية الانتخابية، لأنها تعرف بأن الانتخابات مشكوك في نتائجها، وهنا لا يجب اتهام الأحزاب، لأنها في كل مرة تتدارك الأخطاء وتضع مرشحين من أصحاب الكفاءات، خاصة الأحزاب الصغيرة.
إذا، كيف السبيل لرفع نسبة المشاركة في تشريعيات ماي المقبل برأيكم؟ السبيل الوحيد أن تكون الانتخابات القادمة نزيهة لفتح آفاق جديدة ويكون لصوت المواطنين معنى، ويجب التأكيد على أن تشريعيات 2017 فرصة مواتية للسلطة لكي تتدارك الأخطاء التي وقعت فيها في وقت سابق، وكذا المظاهر السلبية، ونقول إن الحل الوحيد والأوحد هو أن تكون الانتخابات المقبلة نظيفة ولا بديل عن ذلك. وإلا فإن العزوف سيصبح ظاهرة ويتسع ولن يقتصر العزوف على الناخبين، بل قد يتعداهم حتى إلى الطبقة السياسية، وعندها سنعيش وضعا سياسيا غير طبيعي.
رئيس حزب جيل جديد جيلالي سفيان: غياب الجزائريين عن الصناديق عزوف وليس مقاطعة يعتقد رئيس حزب جيل جديد أن تطليق الجزائريين للعملية الانتخابية نابع من عدم ثقتهم في نية السلطة في إجراء انتخابات شفافة ونزيهة. ويرى أن تخلف الجزائريين عن صناديق الاقتراع نابع من عدم مبالاتهم بما يجري حولهم بسبب الظروف الصعبة التي يعيشونها.
كيف تتوقع حجم الإقبال على صناديق الاقتراع؟ أجزم بأن نسبة الإقبال على الانتخابات المقبلة ستكون ضعيفة جدا، وأؤكد أن 95 بالمائة من الجزائريين لن ينتخبوا، فكل أولئك الموجودين في الشوارع والمقاهي ومختلف الأماكن العامة غير مبالين لا بالتشريعيات ولا بغيرها، ولكن فقط بالبحث عن لقمة العيش، والقلة فقط من سيتوجهون إلى التصويت يوم 4 ماي المقبل، وهؤلاء أصنفهم في خانة الذين يعتقدون أنه يجب الحصول على ختم في بطاقة الناخب الخاصة بهم ليتمتعوا بكافة حقوقهم في التوظيف وما شابه ذلك، أو بعض من لهم مصالح مع الطبقة السياسية من أقاربهم وأهاليهم.
ما المنغصات التي قد تؤثر على الإقبال؟ هنالك العديد من المنغصات، أولها انعدام الثقة بين المواطن والجهة المشرفة على العملية الانتخابية وغياب الإقناع.. وعلى كل، فالسلطة قادرة على إيجاد أي سبب لتبرير تراجع نسبة التصويت، فمن قبل كانت تتحدث عن الحرارة المرتفعة في الصيف، وتقول إن الشمس الحارقة منعت الجزائريين في بعض المناطق من التوجه إلى أداء واجبهم الانتخابي.. فالمهم هو أن تتنصل من مسؤولية الفشل، وترفض الرحيل مهما كلفها الأمر.
تتميز الانتخابات المقبلة باستحداث هيئة جديدة للإشراف على مراقبة الانتخابات، ألا يشكل هذا ضمانا قويا للإقبال على الاقتراع؟ هذه الهيئة لن تسهم في إضفاء أي نوع من أنواع الشفافية على الانتخابات المقبلة، لأنها لا تتناسب وما سبق أن نادت به المعارضة، كما أنها هيئة غير مستقلة. فوزيرا العدل والمالية وكافة الوزراء الذين يعينون القضاة وينفقون على الهيئة متحزبون ومنهم من هم مرشحون في التشريعيات المقبلة، فكيف في مثل ظروف كهذه أن تضمن هيئة المراقبة شفافية العملية الانتخابية.
المواعيد السابقة شهدت نسب مقاطعة عالية.. هل أسباب المقاطعة سياسية أم اجتماعية؟ بالإضافة إلى الأسباب السياسية، هنالك أسباب اجتماعية سينجر عنها العزوف عن الانتخابات، فانخفاض مستوى المعيشة وتراجع القدرة الشرائية والضرائب المفروضة عبر قوانين المالية، كلها ستكون أحد أهم الأسباب التي ستؤدي إلى العزوف، والأكثر من ذلك أن الوضع تغير اليوم، فالسلطة لا تمتلك الإمكانات لتسديد فاتورة إقناع الشعب عبر وعود وردية، مثلما حدث في السابق. وهو ما ينجر اليوم عن أزمة النفط، لذلك فهذه الأخيرة لن يكون بيدها المال لإقناع الجزائريين بالتصويت ما سيكون أحد أهم أسباب المقاطعة في المرحلة المقبلة.
هل للأحزاب المقاطعة دور في ذلك؟ إذا أرادوا أن يعلقوا عزوف الشعب عن مكاتب الاقتراع على شماعة الأحزاب الداعية إلى المقاطعة، يشرفنا ذلك، وبتعبير آخر، هذه النتيجة تندرج ضمن صلب مساعينا لنثبت للسلطة أن الحلول التي باتت تقترحها اليوم لا تسمن ولا تغني من جوع، وعلى كل حال، فالسلطة في هذه الحال ستعترف بوجود معارضة، ونحن نتحمل مسؤولية المقاطعة والعزوف في حال تسجيلهما، لأننا فعلا نبحث عن التغيير والنفس الجديد.
تغيب الناخبين عن مكاتب الاقتراع، هل هو عزوف أم مقاطعة؟ حتى نكون واقعيين، نحن كمعارضة نصنف ما سيحدث يوم الاقتراع ضمن خانة العزوف أكثر منه المقاطعة، ونعتبر أنه ناجم عن عدم مبالاة المواطنين والطبقة الناخبة بضرورة التوجه إلى صناديق الاقتراع من عدمه، وكنا نفضل أن تكون المقاطعة ناجمة عن وعي، وتتضمن رسائل قوية تفيد بأن ما تطرحه الحكومة اليوم من خيارات لا يتلاءم ورغبة الجزائريين، بل هو مجرد مقترحات انتهت صلاحياتها، وكذلك لا يوجد عمل سياسي جاد من شأنه إقناع الشعب، ويندرج ذلك في إطار التعبير عن كوْنِ ما تمارسه السلطة من سياسة مرفوضا من قبل الأغلبية.