بعيدا عن الخَطب الجلل الذي شغل أمّة الإسلام هذه الأيام، اختار خطيب المسجد النبويّ، في خطبة الجمعة الماضية، أن يغرّد خارج السّرب، ويتحدّث عن "تعاقب الفصول" في وقت كانت دماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تغلي في عروقهم، بعد الطّعنة التي وجّهها رئيس أمريكا الحاقد إلى المسلمين في واحدة من أهمّ مقدّساتهم، حين أعلن يوم الأربعاء قبل الماضي اعترافه ب"القدس" عاصمة للصّهاينة.. وغير بعيد عنه، تحدّث خطيب المسجد الحرام، على منبر هو أهمّ منبر على أرض الإسلام؛ عن "برّ الوالدين"! بعد أن صدّر خطبته بكلام مقتضب أثنى فيه على ولاة الأمر في السعودية، وقال إنّهم يحملون– حسبه- همّ القضية الفلسطينية ويدعمونها، ولم ينس الدّعاء لهم بالتّوفيق والسّداد! لم تكن هذه المرّة الأولى التي يخذل فيها خطباء المسجدين الحرام والنبويّ قضايا الأمّة ومقدّساتها، فقد سبق لهم أن لزموا الصّمت إزاء حملات السّخرية والتّشويه بالنبيّ- صلّى الله عليه وآله وسلّم- وبالإسلام والمسلمين، في أعقاب أحداث ال11 سبتمبر 2001م، نزولا عند رغبة ولاة الأمر الذين لا تعجبهم استثارة مشاعر المسلمين، وخوفا من سياطهم التي طالت كثيرا من العلماء والدّعاة في بلاد الحرمين، لا لشيء إلا لأنّهم انتصروا لدين الأمّة وقضاياها وطالبوا قادة أهمّ دولة إسلاميّة باتّخاذ مواقف تشرّف أرض الحرمين التي ينتظر ردّ فعلها في كلّ محنة وكلّ نازلة مليار ونصف مليار مسلم. وهكذا أصبح الحديث في قضايا الأمّة المصيريّة وفي الأحداث التي تشغل العالم الإسلاميّ وينتظر المسلمون في شأنها كلمة حاسمة تقال على أهمّ منبرين في العالم الإسلاميّ، يحتاج إلى إذن خاصّ من ولاة الأمر الذين وجدوا بدورهم ضالّتهم في المذهب الذي يتبنّاه كبار علماء المملكة، ويقضي بتحريم الحديث عن ولاة الأمر على المنابر وفي وسائل الإعلام وعلى صفحات التّواصل الاجتماعيّ، والاستعاضة عن ذلك بالدّعاء لهم والثّناء عليهم، ولو أتوا بالعظائم ومنكرات الأمور، مستندين في ذلك إلى آيات يغُضّون طرفهم عن سياقها، وإلى أحاديث بعضها لا يصحّ، وبعضها الآخر ينزلونه في غير منازله.
تناقضات غلاة الطّاعة لقد أوقع الغلوّ في طاعة ولاة الأمر كثيرا من علماء المملكة في تناقضات لا يقبلها دين ولا عقل، جعلت المسلمين يتساءلون: كيف لهؤلاء العلماء أن يستميتوا في تحريم الاحتفال بالمولد النبويّ الشّريف، بينما لا يجد بعضهم حرجا في تسويغ الاحتفال باليوم الوطنيّ الموافق ل23 من سبتمبر كلّ عام، وكيف لهم أن يحرّموا المسيرات والمظاهرات التي تخرج نصرة لقضايا الأمّة، ويُفتوا بأنّها بدعة خارجية وأعمال غوغائية، بينما يلزمون الصّمت إزاء مشاركة ولاة الأمر في مسيرات تنصر من يسبّ النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ويسخر منه ويدعم الصّهاينة! وكيف ينكرون الخروج على قادة الدّول الذين يرضى عنهم ولاة الأمر في السّعوديّة، بينما يسوّغون في مقابل ذلك الخروج على الحكّام المغضوب عليهم! وكيف يحرّمون مشاركة المرأة في المجالس النيابية والمحلية ويحرّمون عليها قيادة السيارة إذا وافق ذلك هوى السّلطة الحاكمة، ثمّ يتراجعون عن التّحريم ويباركون مشاركة المرأة في الحياة السّياسية ويجيزون لها قيادة السيارة عندما يبدو لوليّ الأمر رأي آخر! وكيف يحرّمون الأناشيد الإسلاميّة، ثمّ يصمتون صمت القبور حينما يقرّر ولاة الأمر إنشاء هيئة للتّرفيه مهامها تتركّز أساسا في تنظيم الحفلات الغنائية!... إلى آخر ما هنالك من الفتاوى المتذبذبة التي لا تعدو أن تكون في كثير من الأحيان صياغة شرعية للبيانات الصّادرة عن الدّيوان الملكيّ؛ بل قد تمادى بهم الأمر إلى الاهتمام بإرضاء كلّ من يُهمّ ولاةَ الأمر رضاه، ولو كان في رضاه سخطُ الخالق جلّ في علاه، ولهذا نجدهم يلزمون الصّمت إزاء المجازر التي ترتكبها القوات الغربيّة في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، بينما يسارعون- في المقابل- إلى إدانة كلّ عملية تطال الغرب ومصالحه. ليس كلّ علماء السّعودية على هذا النّهج، بل إنّ مئاتٍ من الدّعاة والعلماء يرفضون هذه الطّاعة العمياء لولاة الأمر والأمراء، ويجهرون بالحقّ في النّوازل والملمّات، على تفاوت بينهم، لكنّ هؤلاء هم الآن بين معتقل ومسجون ومضيّق عليه، والذّريعة دائما هي "مكافحة الفساد".
وماذا بعد؟ نقل ابن كثير في "البداية والنهاية" عن ابن عساكر رواية له عن النَّضْر بن شُمَيْل قال: دخلتُ على المأمون، فقال: كيف أصبحت يا نضر؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين، فقال: ما الإرجاء؟ فقلت: "دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم". لقد تجرّع المسلمون كؤوس الذلّ والهوان كلّها، ولحقهم من المهازل ما لا قِبل لأمّة الإسلام به، بسبب ركون كثير من العلماء إلى الإرجاء الذي جعل قضايا الدّين وأحكامه، رهنا للملوك والأمراء، يوجّهونها حسب مصالحهم ومصالح حلفائهم وأصدقائهم، ممّن لا يرقبون في أمّة الإسلام إلاًّ ولا ذمّة، وقد أسهم في انتشار هذا الفكر، إضافة إلى رغبة الحكّام والأمراء، دعم كثير من الأوساط الغربيّة، التي وجدت فيه ضالّتها وأوصت بترويجه كما أوصت من قبل بترويج المذاهب القبورية والباطنية. وإذا كانت هذه الأخيرة تخدم العلمانيين وأولياءهم في دعوتهم إلى فصل الدّين عن السّياسة، فإنّ الإرجاء يخدم أعداء الأمّة في إضفاء المصداقية والغطاء الشّرعيّ على سياسات الحكّام الموالين لهم.