ثلاثة ثوابت كانت تطبع السلوك السياسي لعبد الحميد مهري في مأموريته كأمين عام لحزب جبهة التحرير الوطني: التوافق والطيبة والعناد: هو توافقي بالإفراط إلى حدّ التضحية بالفعالية، حتى إذا اقتضى ذلك الإبقاء على دورة اللجنة المركزية المنعقدة مفتوحة لشهور، إلى أن ينضج الرأي التوافقي في الاتجاه الذي يرتضيه. وهو طيب الخلق ولو على حساب مقتضيات الفصل الحاسم السريع الذي لا يحتمل المواربة. وقد يضحي، تكتيكيا، بالقانون الأساسي للحزب، في سبيل أهداف إستراتيجية تحتمل التريث. وقد يكون ذلك إرضاء لقوى ما، أو اعتبارا لوجوب احترام مقتضيات توازن قوى يدركها هو، أو يتعامل معها باللين المرحلي، ولو على حساب الصحب والموالاة الأقل نفاذا في دواليب سلطة القرار ذات اليد العليا. وقد يكون المسار السياسي الصرف للرجل، عكس مسار أغلب الرفقاء (في الحزب) المجاهدين، هم، بالسلاح، الصاقل الأكثر تحديدا لهذا السلوك. وقد يبرر حتى اللجوء إلى الانفراد بالقرار. وهو، أخيرا، وليس آخرا،عنيدا في الذود عن مواقفه دون رفض النقاش شكلا ومضمونا، موظفا في ذلك، حنكته السياسة المكتسبة وغزارة أفكاره ورقي بلاغته، ملفوفة في طيبة خلقه، مفضلا الانسحاب من الحلبة، دون صخب، إذا تيقن أنه لا يقوى على النزال. فيترك الصحب والموالاة لمصائر غير مضمونة العواقب، يتحسسون تموقعات جديدة على نفس المقلب أو على نظيره من الأخدود الذي أحدثته الهزة التكتونية التي ضربت الأرضية الصخرية للحزب، بعد ما أصابها من تشققات تحت تعاقب مختلف عوامل التعرية عليها. هذه الصور البليغة تجد قرائنها في إسقاطاتها على الصور المقابلة الثلاثة الآتية: 1- في اجتماع اللجنة المركزية لشهر أوت 1991 المنعقدة بطلب من ثلثي أعضاء اللجنة المركزية تحت نقطة نظامية أساسية واحدة لتغيير تشكيلة المكتب السياسي للحزب والتي سجلت أفضح خرق لقانونه الأساسي، تكريسا لخروقات اقترفت من قبل، والتي امتدت لاحقا، إذ فرض اثنى عشر عضوا من لجنة الترشيحات أنفسهم كأعضاء في المكتب السياسي، والقانون الأساسي يمنعهم من ذلك، تاركين، تعديا، للأمين العام عبد الحميد مهري، الذي رفض، حرية استكمال تعداد أعضاء المكتب السياسي بتعيين الثلاثة المتبقين. لكن الأمين العالم، رغم هذا الخرق، قبل بالأمر الواقع المفروض عليه تحت دوس القانون الأساسي، في شبه مسايرة للخرق. والأمر أن هذا التجني على القانون الأساسي للحزب قد صدر عمن هم، أسفا، من خيرة المناضلين: تاريخا وجهادا ومكانة في سلطة البلاد، آنذاك، سيذكرهم تاريخ الحزب، يقينا. وتمت التضحية، في هذا السياق، بمن كانوا يحسبون من المجددين، في منطوق ذاك الظرف. ويبقى، مع ذلك، موقف عبد الحميد مهري، إزاء هذا المشهد، لغزا محيرا. 2- وفي المشاركة في ندوة "سانت-إجديو" في تضارب على مستوى مصادر الخبر،عن تفويضه من عدمه، من قبل حزبه، علما أن سلطة البت في الأمر قد خوّلتها اللجنة المركزية لأمينها العام في شكل تفويض عام أملاه، هو شخصيا، على لجنة لائحة السياسة العامة للجنة المركزية التي انعقدت قبل ندوة سانت-إجديو، تبيح لمهري اتخاذ كل المبادرات التي يراها ضرورية للمساهمة في إيجاد الحلول لأزمة البلاد، تنصلا من صلاحياتها، في بدعة للتهرب من تبعات اتخاذ القرارات في هذا الشأن وفي غيره، وتجاوزا لدور المكتب السياسي رغم ما أشيع، آنذاك، حول استشارة بعض من أعضائه فرادى من قبل مهري حول فحوى مشروع تصريح سانت-إجديو قبل اعتماده. وهذا ما يفسر اللخبطة التي "وصمت"، في القراءات والتأويلات المتضاربة، مشاركة عبد الحميد مهري في الندوة، ذات يوم من أيام 8-13 جانفي 1995، وملابسات "إنزال" مهري من على الأمانة العامة للحزب التي ما تزال تغذي، إلى اليوم، الإخراجات المتضاربة. إذ يرجع البعض هذه الإطاحة إلى إرادة من خارج الحزب لتورط مهري في مسعى تصالحي يعارض المسعى الرسمي ويقوضه وإلى سوء قيادة الحزب بالنظر إلى نتائج الانتخابات التشريعية والمحلية التي جرت بداية التسعينيات السالفة وإلى التفرد برفض مشاركة الحزب في المجلس الوطني الانتقالي. وكان البعض الآخر يفضل، دون نكران هذه المآخذ، إرجاء التنحي الطوعي لمهري من على رأس الأمانة العامة للحزب، إلى المؤتمر اللاحق. فكانت الغلبة للطرح الأول خلال انعقاد اللجنة المركزية المعنية. حينها، تم سحب الثقة من مهري في افتتاح الدورة بتلاوة لائحة تحمل تواقيع أغلبية أعضائها. نزل مهري، بعد ذلك، من منصة رئاسة الدورة وجلس مع زملائه أعضاء اللجنة المركزية، رافضا طرح اللائحة للتصويت برفع الأيدي كما اقترح عليه من قبل بعض الموالين له. ولو طرحها لقلب الموازين. كما كان قد رفض فكرة ترك الدورة مفتوحة، دون البت في جدول أعمالها، حتى تهدأ الأجواء، توظيفا لتقنية يحسن، هو، تسخيرها كما أسلفناه. لأنه كان يعلم يقينا، حسب ما أسر به لمقربين منه، أنه لم يعد يحظى بالإجماع داخل الحزب وخارجه، لما تراكم ضده مما استعرضناه سابقا، عن حق أو عن باطل. سيما بعد سماعه أسماء أعضاء من اللجنة المركزية الموقعين ضده، ممن كانوا، بالأمس القريب، يتقربون منه متوددين له متزلفين. فانتخب، بعد ذلك، بوعلام بن حمودة أمينا عاما جديدا للحزب، في تنافس عبر "الصندوق"، مع مولود حمروش رئيس الحكومة الأسبق، في شفافية تحكمت في نتائجها مناورة لبقة، في حدود المسموح به، حبكها الرابحون، مقابل سذاجة "ارتكبها" الخاسرون. فطويت بذلك صفحة عبد الحميد مهري كأمين عام لحزب جبهة التحرير الوطني وبدأ فصل جديد من تاريخ الحزب ليس كالفصول السابقة. تغمد الله مهري برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جنانه.