ما أن بدأت بعض وسائل الإعلام العربية تتخلص شيئاً فشيئاً من سيطرة الحكومات، وتختط مساراً مستقلاً أو شبه مستقل عن مقص الرقيب حتى راح الإعلام الرسمي العربي يتصدى لها بضراوة عز نظيرها، فلم تسلم الوسائط الإعلامية الجديدة كمواقع الانترنت والصحف والمجلات والقنوات الفضائية المتحررة نسبياً من سهام القائمين على وسائل الإعلام الحكومية ومرتزقتهم ومأجوريهم ورداحيهم ودجاليهم ومنافقيهم، فراح هؤلاء يكيلون الشتائم والاتهامات الخطيرة بالجملة والمفرق لكل وسيلة إعلام خرجت عن طوق الرقيب الرهيب. ولعل التهمة الأكثر شيوعاً واستخداماً التي تسوقها وسائل الإعلام الحكومية العربية ضد نظيراتها التي بدأت تتحرر من ربقة الإعلام الشمولي الموجه هي تهمة التصهين، فكل وسيلة إعلام تخرج عن الخط الرسمي وتحاول أن تستقل برأيها، وتنقل الحقيقة دون زيادة أو نقصان تصبح في نظر بعض وزارات الإعلام العربية العتيدة خادمة للصهيونية ومروجة لافكارها ومصالحها. يا سلام! وكم سمعت بعض الصحفيين العرب الذين ترعرعوا في كنف الإعلام الموجه ورضعوا من حليبه الفاسد يتهمون هذه الفضائية او ذاك الموقع الالكتروني أو تلك الصحيفة الليبرالية الحرة بالتصهين وخدمة المشروع الصهيوني. أما آن الأوان لأن نعيد تعريف التصهين يا جماعة الخير؟ من الذي يخدم الصهيونية فعلاً، الإعلام العربي الجديد الذي يحاول كسر الهيمنة الحكومية ويقترب من هموم الناس وقضاياهم، ويعبر عن مشاعرهم، ويسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية، أم الإعلام الرسمي العربي الذي قدم للصهيونية، وما زال يقدم خدمات جليلة لم ينافسه على تقديمها أحد؟ أيهما الإعلام الصهيوني حقاً، الإعلام الذي يميط اللثام عن أمراض هذه الأمة، ويفضحها، ويحاول اقتراح علاجات لها، أم الإعلام الرسمي الذي عاش وما زال يعيش على النظرية الإعلامية الهتلرية الجوبلزية القائمة على التدجيل والتضليل والكذب ثم الكذب لعل شيئاً يعلق في اذهان الجماهير؟ أيهما الإعلام الصهيوني، الإعلام الذي بدأ يتحدث بلسان الجماهير ويعالج همومها ويتطرق إلى القضايا الحقيقية في مجتمعاتنا العربية المبتلاة بآلاف السرطانات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية المسكوت عنها، أم الإعلام الحكومي الذي لا هَمَّ له سوى الحديث عمن اسقبل وودع سيادته وفخامته وجلالته وسعادته في الأمس؟ أيهما الإعلام المتصهين، أهو الإعلام الذي يتجاهل استقبالات وتوديعات الزعيم العربي الفردية السخيفة ويركز على مصالح الشعوب وآلامها الكثيرة أم ذلك الإعلام الشمولي الذي يستغل جل صفحات الجرائد والمجلات ووقت الإذاعات والتلفزيونات العربية ليحدثنا عن تحركات القائد وإنجازاته "التاريخية" الفارغة؟ من هو الإعلام المتصهين؟ أليس الإعلام السلطوي الذي يكرس جل وقته ليحدثنا عن "محقان الذي عاد من الحمام برعاية الرحمن؟ أليس الإعلام المتصهين الحقيقي هو الذي "يمتعنا" بتفاصيل تحركات الزعيم العربي الذي "يفرغ من قهوته" ثم يلعب بعروته؟ من الذي يخدم الصهيونية والأعداء عموماً؟ أليس الإعلام الرسمي الذي يتظاهر بمعاداة الصهيونية بينما يقدم لها خدمات عظيمة من خلال احتقاره للشعوب والمجتمعات وتقديسه للزعيم الأوحد؟ ألم يكن أحد الشعراء العرب على حق عندما قال: "إعلامنا إعدامنا، يركلنا يشتمنا، يبصق في وجوهنا، وما بأيدينا سوى أن نشكر الإحسان"؟ أليس الإعلام المتصهين الفعلي هو الإعلام الذي "يختزل الأوطان في كبسولة يدعونها محقان" ومن ثم يتجاهل هموم سكان الوطن الحقيقيين الذين يرزحون تحت نير الظلم والقهر والفساد والتنكيل اليومي؟ لقد اعتاد الإعلام العربي الحكومي على مدى العقود الماضية التستر على معظم أمراضنا، فالنقد ممنوع وفتح الملفات قد يؤدي بالصحفي الجريء إلى غياهب السجون لعشرات السنين. هل يخدم إخفاء مشاكلنا الحقيقية وتغييبها سوى الأعداء؟ لماذا نرى إعلام أعدائنا ينقب في كل شاردة وواردة ويطول أعلى قياداتهم بالنقد والتجريح أحياناً ويغوص في اعماق مشاكلهم على مختلف أنواعها بحرية هائلة بينما تضطر وسائل الإعلام الحكومية العربية إلى تجاهل أبسط قضايانا الحقيقية أو التستر عليها أو تزييفها توخياً للسلامة؟ من المستفيد الحقيقي من تغييب قضايا الشعوب عن صفحات الجرائد والتلفزيونات العربية الرسمية؟ أليس الأعداء والصهاينة في مقدمتهم؟ هل ننال من الصهيونية بدفن أوساخنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت السجادة ومنع تناولها في وسائل إعلامنا، أم أننا نخدمها خدمة جليلة لا مثيل لها؟ ليس لديّ أدنى شك بأن أعداءنا مستمتعون جداً بالطريقة التي تُدار بها وسائل الإعلام العربية الرسمية؟ فالصهيونية مستعدة لدعم الإعلام الحكومي العربي وتشجيعه والتصفيق له لأنه خادمها الأفضل والأروع ولن تجد أفضل منه سنداً لها؟ ولا شك أيضاً أن أعداءنا اصيبوا بخيبة أمل كبرى عندما ظهرت بعض وسائل الإعلام العربية المتحررة من نير النظام الشمولي العربي، فهم لا يريدون لإعلامنا أن يتحرر كي يكشف عوراتنا وعيوبنا ويصححها، بل يريدون له أن يبقى بوقاً رخيصاً لسيادته وفخامته وجلالته وسعادته، ومزوراً للحقائق والبديهيات. لكم اتهم الإعلام الحكومي العربي نظيره المستقل أو شبه المستقل بإثارة الفتن وتأجيج الصراعات. وهنا أود أن أسأل سؤالاً بسيطاً: هل إذا كان أحدنا يعاني من ظهور دمل كبير على يده هل يداويه بتغطيته بمنديل ورقي ويخفيه عن أعين الناس، أم أنه يكشف عنه أمام الطبيب كي يشخصه ويضع له العلاج المناسب والشافي؟ إن مشكلة الإعلام العربي الرسمي أنه مازال يعتقد أن الجمهور العربي غبي مثله متناسياً أن المتلقي العربي أصبح أكثر وعياً وثقافة وحصافة من القائمين على الإعلام الحكومي بعشرات المرات. ولم تعد تنطلي عليه اكاذيب وأراجيف الإعلام الموجه الذي ما لبث يتهم الإعلام الحر بإثارة القلاقل. هل يعلم وزراء الإعلام العرب أن الصراعات العربية الداخلية التي يحاولون التستر عليها وإبعادها عن اهتمام الإعلام قد حصدت أرواح مئات الآلاف من الناس ولا بد من معالجتها ومناقشتها إعلامياً بدلاً من تجاهلها وتجريم كل من يحاول الاقتراب منها؟ هل يعلمون أن مشاكلنا الداخلية قتلت من الناس أكثر بعشرات المرات مما قتل صراعنا المركزي مع إسرائيل؟ من هو الإعلام المتصهين إذن، الإعلام الذي ينكأ الدمامل المتقيحة بقصد مداواتها وتطهيرها، أم الإعلام الرسمي الذي يتنكر لها كما لو أنها غير موجودة؟ إن اتهام الإعلام الرسمي للإعلام الحر الجديد بإثارة الفتن عائد إلى أن الأنظمة العربية تخشى من فتح ملفاتها وفضح أوساخها على كل الصعد، ولهذا تلجأ إلى تلفيق التهم السخيفة للإعلام الحر بقصد تنفير الناس منه، لكن ألاعيبها المكشوفة لم تعد تنطلي حتى على المعتوهين عقلياً. لم تعد تهمة التصهين تمر على رؤوس المستمعين والمشاهدين والقراء العرب بتلك السهولة القديمة، فقد بات الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج يعرف جيداً أيهما الإعلام المتصهين وأيهما الإعلام الوطني الحقيقي. إن الإعلام المخلص فعلاً لقضايا أمته هو الذي يكشف المستور ويتصدى لدماملنا السياسية والدينية والاجتماعية بشجاعة وقوة، ولا يداري على مصائبنا ويصورها لنا على أنها ضرورات تاريخية. أما الإعلام المتصهين الحقيقي فهو بعض الإعلام الحكومي العربي الذي أصبح نكتة سمجة لا تُطاق. وكم شعرت بسعادة غامرة عندما سمعت مشاهداً عربياً ذات مرة يرد على الذين يتهمون الإعلام الحر بالتصهين بالقول: "إذا كانت الصهيونية تقدم لنا إعلاماً كمواقع الانترنت الجريئة والصحف المنفتحة والفضائيات الإخبارية الرائعة والمقدامة فمرحباً بالصهيونية وأهلاً وسهلاً بها، وعاشت يداها وسجل أنا متصهين ورقم بطاقتي مئتان وخمسون مليوناً أو أكثر!" لقد آن الأوان لا بل كان حرياً بنا أن نعيد تعريف التصهين الإعلامي منذ عشرات السنين، فلا يكفي أن تلعن الصهيونية وتشتمها وتسبها في وسائل إعلامك ليلا ونهارا كي يُقال عنك إنك إعلام وطني، فما الفائدة أن تدين الصهيونية ثم تحقق لها كل مآربها من خلال إعلامك المزيف الكاذب الحافل بالدجل والتعتيم على أصغر القضايا وهموم الشعب؟ أليس هذا نوعاً من التصهين الإعلامي المفضوح؟ ليس التصهين أن تقتحم كل المواضيع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بجرأة وحنكة إنما التصهين هو أن تسخّر وسائل إعلامك للكذب والنصب والتجهيل والتعتيم والتضليل والضحك على ذقون الشعوب.