هناك ثابتان بارزان يميّزان عهد الاحتلال الفرنسي لبلادنا وهما من جهة، لجوء المحتل دوما إلى استعمال العنف والقمع ليضمن لنفسه البقاء فوق أرض ليست بأرضه، تقابله من جهة أخرى مقاومة شعبية دائمة ومتعددة الأشكال كردّ فعل طبيعي يعكس ما عرف به شعبنا عبر التاريخ من التعلّق بالحريّة ورفض الاستسلام لقانون القوّة. وقد تولّد عن هذين الثابتين، سلوكان متعارضان يفرّقان بينهما، أحدهما للغازي يدفعه مركّب التفوق العنصري القائم على "الأساطير التمدينية للجنس الأعلى"، والثّاني سلوك للضحيّة صقله تعلّق أجدادنا الأزلي بالحرية واعتزازهم بالانتماء إلى دائرة ثقافية ودينية مختلفة تمدّهم بأسباب المقاومة والثّقة بالمستقبل؛ وها نحن اليوم بعد مرور 48 سنة على استعادة استقلالنا الوطني، لا نزال مشدودين إلى تلك الحقبة التي لم تخمد نارها بصفة نهائية لأنّ صدماتها النفسية في الأحياء منّا عميقة وجروحها لم تندمل بعدُ؛ فهي تتأجّج كلما فترت العلاقات بين الجزائر وباريس إذ غالبا ما يثير إقدام هذا الطرف أو ذاك على اتخاذ قرارات سيادية كيفما كان طابعها الشّكوك لدى الطرف الآخر، فيعود مجدّدا الماضي الاستعماري إلى الواجهة ليجد هنالك خلف البحر من يفتخر به ويمجّده وكأنّ شيئا لم يكن . * * * * * ليس من السّهل استعراض تطوّر هذه العلاقات بالشّرح الوافي بحكم محدودية المساحة؛ ولذلك، وجب الاكتفاء بالتذكير ببعض محطّاتها الأساسية، لعلّها تساعدنا على فهم أفضل لواقعها الراهن وآفاقها في المدَيين المنظور والمتوسّط، ولكن دَعُونا في بداية الأمر نُجلي من النقاش ما تنبّأ به وزير الخارجيّة الفرنسي الحالي بيرنار كوشنير في تصريح صحفي أدلى به في فيفري الأخير بشأن مستقبل الروابط الجزائرية الفرنسية لما فيه من وقاحة وتطاول: * * "إنّ الجيل الذي حقّق الاستقلال في الجزائر مازال في السلطة؛ وسوف يكون الأمر أفضل (بالنسبة لمصير العلاقات الثنائيّة) بعد رحيله". * * لا يخفى على نبيّ قومه أنّ السلام غالبا ما يصنعه المتحاربون لأنّهم أكثر النّاس خبرة بويلات الحرب، ومعنى هذا أن مسألة الذّاكرة - كتبِعة من تبِعات السّلام - إذا لم تُسوّ على أيديهم، فإنّ الأجيال الصاعدة في البلد الضحيّة لن تكون أكثرّ استعدادا للصّفح عن جرائم الاستعمار؛ وعلى نبيّ قومه الذي يُخامره الشكّ أن يحلّل جيّدا أسباب الهبّة الوطنية التلقائية التي أعقبت تأهّل الفريق الوطني لكرة القدم لتصفيات كأس العالم 2010، والّتي كانت من صنع ملايين الشبّان ممّن وُلدوا تحت شمس الاستقلال ولم يكتووا بنار الحرب كما قصّها عليهم الآباء والأجداد ولمسوا آثارها في كلّ مكان. * * * * 1 - الولادة الصّعبة لعلاقات متقلّبة * * لم تخل العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ الاستقلال من هيمنة الماضي حتّى كادت تختصر في سلسلة من الأزمات المتتاليّة والفرص الضّائعة لتجاوزها؛ ولا عجب، لقد ولدت هذه العلاقات من قطيعة مؤلمة بعد عيش مشترك طويل مفروض بُني على مئات الآلاف من الشهداء والملايين من المهجَّرين، والمعوّقين، واليتامى والثكالى ومشاريع لسحق الذّاتيّة ومحو الذّاكرة؛ لقد نجا من الفناء والإبادة فوق هذه الأرض الثائرة مجتمع أنهكته عقود من المقاومة والاستنزاف، فوجد نفسه غداة انتزاع زمام المبادرة في تقرير مصيره ممزّقا وأميّا بعد أن كان ملتحما متعلّما، وورث اقتصادا موجّها للخارج، وإدارة تحكمها قوانين قائمة على التّمييّز العنصري. * * إن اتفاقيات إيفيان التي أنهت الحرب، نصت على فترة انتقالية من ثلاث سنوات يتمّ بعدها "تحديد العلاقات الدائمة بين الجزائرالجديدة، وفرنسا"، وحاولت أن تعطي لكلّ طرف ضمانات تطمئنه على مستقبله في رحاب الدّولة الجديدة، إلا إنّها لم تعمّر لِاختلاف تفسير الطّرفين لها فور دخولها حيّز التّنفيذ واصطدام كلّ منهما بمعارضة داخليّة: فالحكومة الفرنسيّة لا تعتبرها معاهدة بين دولتين مستقلّتين لأنّها لا تعترف بوجود دولة جزائريّة قبل الاحتلال تمثّلها الحكومة المؤقّتة وإنّما تتعامل معها كشيء شبيه ببرنامج يحمي مستقبل الأقلّية الأوروبيّة ويضمن مصالح الّدولة الاستراتيجية وخاصّة في الصحراء حيث البترول والغاز والفضاء لإجراء التّجارب الذرّية العلميّة والفضائيّة، بينما ترفض منظّمة الجيش السرّي الإرهابيّة (OAS) الّتي يؤيّدها المستوطنون الأوروبيّون، التخلّي عن "الجزائر فرنسيّة". أمّا قيادة جبهة التحرير الوطني فترى فيها اتّفاقيّات بين دولتين لإنهاء الحرب واستعادة السيادة الوطنيّة والشّخصيّة الدّوليّة للجزائر، وعندما ظهر الصّراع في صفوفها على السّلطة استعدادا للعودة إلى أرض الوطن، اعتبرها المجلس الوطني للثورة الجزائريّة (وهو القيادة السياسية العليا للثّورة) في آخر دورته في طرابلس في جوان 1962 "قاعدة للاستعمار الجديد تحاول فرنسا استعمالها لتمكين هيمنتها وتنظيمها بشكل جيّد". * * - في تلك الدّورة تبنّى المجلس الوطني مشروع مجتمع يقوم على الاشتراكية كاختيار اقتصادي اجتماعي، وعلى الحزب الواحد كنظام سياسي؛ وبقيت الأولوية الثانية المتعلّقة ببناء الدّولة، وهي الأصعب لرجال حرمتهم ظروف الاحتلال من اكتساب التجربة المطلوبة لإدارة الشأن العام، فلم تكن للجزائر إطارات مؤهّلة بالعدد الكافي، ولم يكن يخطر ببال رجالها أن تهجرها الكوادر الفنيّة الفرنسيّة دفعة واحدة ولمّا يجفّ حبر اتّفاقيّات إيفيان الّتي نصّت على بقاء الجهاز الإداري بتركيبته البشريّة طيلة المرحلة الانتقاليّة: "إنّ الموظّفين الممارسين حتّى تاريخ إجراء تقرير المصير يستمرّون في مناصبهم" بل إنّ السلطات الجزائريّة "لا تستطيع أن تطردهم إلاّ بعد استشارة السّلطات الفرنسيّة". وهكذا بُنيت العلاقات بين الدّولتين من الأساس على سوء تفاهم ومعارضة لها داخل كلّ معسكر، وهي سمة ستلازمها في شكل أزمة ثقة خفيّة دائمة وظّفها الجيران لصالحهم وتمنّوا المزيد. * * أ- من العلاقات المتميّزة إلى العلاقات العاديّة * راهنت الحكومات الفرنسية المتعاقبة بيمينها ويسارها بادئ الأمر على الحلّ العسكري، من أجل الاحتفاظ بنفوذها في الجزائر، فألقت بكلّ ثقلها في ساحة المعركة مدعومة بالحلف الأطلسي وخاصّة الولايات المتّحدة الأمريكيّة(2)؛ ولكنّها اكتشفت أنّ القضيّة الجزائريّة انتقلت إلى المحافل الدوليّة وأنصارها عبر العالم في تزايد، حينها لجأت إلى الحلّ السياسي فأدرجت في اتّفاقياّت إيفيان "تعاون الأقليّة الأوروبيّة مع المؤسّسات ومشاركتها في الحياة العاّمّة في الجزائر المستقلّة شرطا لقيام تعاون بين الدّولتين"، ولكن مراهنتها أيضا كانت خاسرة لأن الجزء الأعظم من هذه الأقليّة الّتي أيّدت منظّمة الجيش السرّي فرّ أو هاجر، طوعا أو كرها، في الأشهر الّتي تلت وقف إطلاق النار. ولا غرابة إذن أن يكون الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول - وقد خسر الرّهانين العسكري والسياسي- غير مرتاح في تعامله مع نّظام الجزائر المستقلة بدعوى أنّه "لا يحترم اتفاقيات إيفيان، ويتلذّذ بمعاداة الاستعمار" ويقول:"عندما يستقيم هذا النظام يمكن آنذاك أن نقيم معه علاقات طبيعية"(3)؛ * * - إنّ هذا الإدّعاء يستدعي ملاحظتين: إن الدّولة الفرنسيّة آخر من يتحدّث عن احترام الاتّفاقيات والمعاهدات مع الجزائر، فقد نكثتها على الأقلّ ثلاث مرّات في عهد الاحتلال (وثيقة استسلام الدّاي حسين، معاهدة تافنة، ووجهة نفي الأمير عبد القادر)، أمّا الملاحظة الثّانية فهي أنّ هذا الإدّعاء يخفي لدى صاحبه العجز عن الردّ على السؤال التالي: كيف يمكن إحلال علاقات تعاون جديدة بين ندّين متساويين بدل علاقات هيمنة بالية تجمع بين آمِر ومُنفِّذ؟ وبعبارة أخرى، هل تستطيع الذهنيّة الاستعمارية أن تسلّم بإرادة الشّعوب وتتخلّص من عقد الماضي؟ * * ظلّت الإجابة على هذين السّؤالين معلّقة، وكان ذلك واضحا في مسارّ العلاقات الثنائيّة، فالخطوات الأولى في إرساء هذه العلاقات استندت - ليس إلى معاهدة بين ندّين(4)- بل إلى تصريح عرف باتفاقيات إيفيان الّتي أنهت حالة الحرب بين المقاتلين وحدّدت مجالات التّعاون، مماّ استوجب - بعد المرحلة الانتقاليّة - إبرام عدد من الاتفاقات القطاعيّة بين دولتين مستقلّتين وذات سيادة: المحروقات في جويلية 1965، التّعاون الفنّي والثّقافي في أفريل 1966، وتنقّل وإقامة الجزائريين في فرنسا في أكتوبر 1968. على أنّ الأزمة الكبرى الأولى بين البلدين انفجرت عندما قرّرت الجزائر في فيفري 1971 استكمال استقلالها الاقتصادي بتأميم ثرواتها الطبيعية من المحروقات، بعد أن عدّلت أسعارها قبيل ذلك بأشهر قليلة؛ إنّ هذا الإجراء الذي يذكّر بتجربة - مصدق - الإيرانية يتوّج عملية أخرى سابقة بسنوات وتمثّلت في استعادة أراضي المستوطنين الّتي اغتصبوها أثناء الاحتلال كما مرّ معنا في الحلقات السّابقة، وتأميم النّشاطات المصرفية والصناعية والمنجمية وقطاع التأمينات واستكمال جلاء القوّات الفرنسيّة وتفكيك منشآتها العسكريّة... * * وقد أثارت هذه القرارات في حينها استياء كبيرا في باريس عبّرت عنه بإجراءات انتقاميّة في شكل تخفيضات طالت المساعدة المالية التي كانت تُقدّم لبلادنا بمقتضى اتّفاقياّت إيفيان أو الاتّفاقيّات الاّحقة (انخفضت من مليار فرنك فرنسي في عام 1963 إلى أقلّ من مائتي مليون سنة 1968)، وكميات الخمور المصدّرة إلى فرنسا (من 9,7 ملايين هيكتولتر سنة 1964 إلى 3,5 سنة 1968) وعدد العمال المسموح لهم سنويا بالهجرة إليها طلبا للعمل (خُفّض عددهم بعد قرارات التّأميم بعشرة آلاف، من 35 ألفا إلى 25 ألفا)؛ ولم ينج من هذه التوتّرات إلا التعاون الفنّي والثقافي، الذي لم يتأثّر حتى عندما كانت العلاقات على حافة القطيعة، فلفرنسا هنا سياسة ثابتة لا يختلف حولها اليسار واليمين وهي ملخّصة في قول الجنرال ديغول: "لو كان عليّ أن أختار بين البترول واللّغة الفرنسيّة، لاخترت اللّغة الفرنسيّة"(5). * * لم تهضم الحكومة الفرنسية حرص الجزائر على تنويع مصادر دخلها الوطني لضمان استقلالها الاقتصادي، فلم تر خيرا في توقيع شركة سوناطراك في أكتوبر 1969 اتفاقا مع الشركة الأمريكية "El Paso" يقضي بتزويد السوق الأمريكية بالغاز الطبيعي لمدة 25 سنة ابتداء من 1976، وجاء بعده بعامين تأميم المحروقات بردّ فعل سريع: إلغاء نظام الأفضليّة في العلاقات الإقتصاديّة والتّجاريّة، مقاطعة استيراد البترول الجزائري بنسبة الثلثين في وقت كانت فيه بلادنا أحوج ما تكون فيه إلى العملة الصعبة لتمويل مخططاتها التنموية؛ وبلغت الأمور حدّ تهديد الشّركات الأجنبيّة الرّاغبة في شراء بترولنا باعتباره "بترولا فرنسيا استولت عليه الجزائر"، التدخّل لدى واشنطن من أجل إعادة النّظر في صفقة سوناطراك إلبازو ، وتأجيل منح البنك العالمي قرضا كانت قد طلبته الحكومة لتمويل بناء مصفاة الغاز في أرزيو؛ وقد اعتبر الرئيس هوّاري بومدين هذه التصرفات بمثابة "حرب اقتصادية". * * وعندما توفّي الرّئيس جورج بامبيدو في أفريل سنة 1974 قبيل انتهاء عهدته بعامين، كان هذا الخلاف حول تأميم المحروقات قد سوّي بالاعتراف بحقّ الجزائر في التصرّف في ثرواتها الطّبيعيّة، لكن العلاقات الثنائية فقدت الأفضليّة في سياسة التعاون الفرنسية مع الخارج؛ أما خليفته فاليري جيسكار ديستان المعروف بنزعته المؤيّدة لاستمرار احتلال الجزائر وتعاطفه مع منظّمة الجيش السري الإرهابيّة، فقد احترم التزامات سلفه عندما قام في أفريل 1975 بأوّل زيارة رسمية لرئيس فرنسي لبلادنا منذ الاستقلال؛ والحقيقة أن "جيسكار" لم يكن يتمنّى أن يؤدّي هذه الزيارة، لسبب يشرحه في مذكراته: "لم أتقبّل بعدُ في أعماقي تخلّي فرنسا عن الجزائر، حتى ولو أدركت حتميته، ووافقت على القرار السياسي المتعلّق به."(6) إلا أنّه تنازل تحت إلحاح مساعديه لأن الجزائر، كما يضيف: "كانت لاعبا أساسيا في الحوار بين الشمال والجنوب، وتمارس نفوذا شبه حاسم على البلدان غير المنحازة".؛ وربّما أحسّت الجماهير بحدسها بثقل هذه الزيارة على صاحبها فخصّته باستقبال فاتر يصفه بقوله: * * "وصل الموكب إلى البريد المركزي، ومن ثمّ إلى شارع ميشلي "ديدوش مراد حاليّا"؛ رأيت صفوفا من الفضولييّن المتردّدين: بعضهم يصفّق وبعضهم يطلق إشارات باتّجاه بومدين... طلبت من بومدين الإذن بالسّير راجلين فأمر السّائق بالتوقّف... ها نحن كلانا نسير في الشّارع، بومدين بوجهه العبوس وأنا ألقي التحيّة إلى الجمهور وخاصّة عندما أرى الأطفال يصفّقون... رأيت محلاّت أسدلت ستائرها الحديديّة... نعم، إنّها مدينة ميّتة"(7). إنّ هذا الفتور الشّعبي لم يمنع الرّئيس بومدين، المعروف بالتأنّي في استنتاجاته من الجزم في مأدبة العشاء الّتي أقامها على شرف ضيفه ب"أن صفحة الماضي طويت إلى غير رجعة"؛ غير أنّ الأحداث لم تأت مصداقا لهذا التّفاؤل المفرط، لأن الزيارة لم تكن في مستوى ما كان منتظرا منها؛ فالضيف عاد إلى بلاده بمجرّد وعد بتأييد اقتراحه الخاص بعقد ندوة شمال جنوب حول مسألة الطاقة والّتي كانت الجزائر تعارضها بقوّة لشعورها بأن الغاية منها ليست سوى تخفيض أسعار البترول ونسف وحدة منظّمة الدول المصدّرة للبترول؛ كما تجدّدت الاعتداءات العنصرية الّتي كانت تستهدف من حين لآخر إخواننا المهاجرين وممتلكاتهم والممثّليات الجزائريّة في فرنسا، أضف إلى ذلك ما انكشف من وجود خطّة لعزل الجزائر الثورية في إفريقيا على أجندة المحور الفرنسي الأمريكي الباحث عن مناطق نفوذ جديدة بعد دحر الامبريالية الأمريكيّة في جنوب شرقيّ آسيا. * * ...يتبع