كانت الطريق بين بيروت وصيدا أمس مثل الطريق إلى المحشر تماما بعدما بدأ مئات الآلاف من النازحين والمهجرين من الجنوب "الحج" الأكبر إلى مناطقهم، ومساكنهم التي دمرت عن آخرها، لكنهم لا يكترثون بذلك، فالعودة بالنسبة لهم ضرب من ضروب المقاومة لأنه يضمن تواجد هذه القاعدة الشعبية الضخمة على الأرض، ويعاضد عناصر المقاومة، ويفشل المخطط الإسرائيلي الذي بدا وكأنه يريد إخراج "الشيعة" من معاقلهم وقراهم، حتى يكونوا حملا على بقية المناطق الأخرى، ويحدث التماس وتحدث المواجهة، لذلك قال لنا أحد اللبنانيين "إن هذه العودة السريعة والواسعة ليست عفوية، إنها طبيعية لكنها تخضع لتوجيهات الحزب الذي يدرك أن له معارك داخلية طاحنة مع قوى 14 آذار التي بدأت ترفع صوتا أسكته صوت الرصاص والقذائف الصاروخية أمس! مبعوث الشروق اليومي إلى صيدا: الطاهر حليسي إسرائيل تزرع السرطان بعد الخراب والموت! منذ الصباح الباكر كانت محطات النقل شاغرة تماما بعدما أمها "النازحون" إلى الجنوب هذه المرة، عشرات السيارات كانت تجوب شوارع بيروت والطرق المؤدية للجنوب، كان الناس شيوخا، كهولا وأطفالا يلوحون بأعلام حزب الله والمقاومة، رافعين صورا عملاقة للسيد حسن نصر الله، فيما فتح البعض أجهزة تسجيلهم عن آخرها تسمعك خطابات حسن نصر الله من بعيد بعيد.. وعبارات حماسية "إن قصفتم عاصمتنا سنقصف عاصمتكم.. وسنضرب ما بعد بعد حيفا"، كنا معهم داخل سيارة لكن "المجقة" لم تكن "معنا" بعدما أصبح الطريق معطلا لا يكاد يسمح بمرور السيارات إلا واحدة وراء الثانية، عند جسر "الدامور" الذي قصفته إسرائيل وسوته بالأرض في الساعات الأولى للمعركة، نزلنا من السيارة وقطعنا الطريق مشيا هربا من القرف والحرارة الخانقة، على الطريق كانت مناظر الخراب ماثلة أمامنا، جسور عملاقة لم يبق لها أثر، وسيارات مفحمة محترقة لا تزال مغروزة في باطن الجسور، ومنازل لا يرى منها سوى الحجر المتكوم، والأتربة التي تفوح منها "روائح" غير صحية، الظاهر أنها رائحة الفوسفور، وعليك أن تأخذ "حماما" مباشرة بعد لمسك لهذه الآثار المتبقية، كما قال لنا عناصر حزب الله، تفاديا لبعض الأمراض السرطانية التي تزرعها إسرائيل بعدما تحرث بالموت كل الأمكنة! الحركة الكثيفة والبطء الشديد جعلت بعض الجنوبيين يفقدون صوابهم حتى أن أحدهم وهو من "علوية" بقضاء بنت جبيل قال لنا "أين هي الدولة، أين هي الجرافات، إن الشبان المتطوعون هم الذين يصلحون الطرقات بأيديهم دون أن تبذل الدولة شيئا.. بالنسبة للجنوبيين ليست هناك دولة، الدولة تراها فقط عندما يتعلق بتسليم السلاح حماية لإسرائيل"!. وشعرنا بالقرف أيضا بعد ثلاث ساعات في مسافة لا تتجاوز 10 كلم، وقررنا النزول والمرور بأقصى سرعة إلى الجنوب والمغامرة "بالأوتو ستوب"، وتوقف شاب لبناني قال إن زوجته من مارون الرأس وقبل أن يأخذنا إلى صيدا دون مقابل "عبر الجبل" لأننا جزائريين! والجبل منطقة جبلية خضراء شاهقة وجميلة، بها دور صغيرة لكنها منسقة بشكل بديع وتقطنها أغلبية "درزية"، وبها قصر المختارة الذي يقيم به زعيم الدروز وليد بك جنبلاط الذي ورث الزعامة والسياسة عن والده كمال جنبلاط المغتال سنة 1975، لكن المنطقة تبدو وكأنها خارج مدار الحرب، ومرورا ببعقلين وجبال الشو، ومناطق سنية مثل داركيا وحميش لم تصبها طلقة إسرائيلية واحدة، وفهم السائق عما أفتش بالتحديد فقال "لا تتعب نفسك قصف الجنوب، والبقاع، والضاحية، لأنها في حرب مع حزب الله والشيعة الذين رفعوا السلاح وفقط"!. قصفوا المساجد.. والجنائز! ملاحظة السائق لم تكن خاطئة، ففي "صيدا" بلد رفيق الحريري الذي تزين صوره العملاقة واجهات العمارات مثلما تزين الواجهات عندنا بصور بوتفليقة، يقطن أكثر من 200 ألف نسمة أغلبهم من السنة، لكن رغم ذلك، لم يقصف بصيدا سوى الأوتو ستراد ومحول كهربائي أحالها إلى ظلام، حيث تنقطع الكهرباء من منتصف النهار إلى السادسة مساء وفق نظام الدوام، ولا مجال للحديث هنا عن الفاكس بعد ذلك، أو حتى الأنترنت، وهي في أحسن الأحوال لا تعمل. بالمختصر المفيد لقد أعادت إسرائيل الصيداويين عشرين سنة إلى الوراء! والصورة أفظع بكثير إن تقدمت بضعة كيلومترات جنوبا، هناك ستجد أيضا أن سكان الشيعة المقيمين عند مخرج المدينة كانوا عرضة للقصف، ولم تسلم حتى مساجدهم وحوزاتهم، مثل حوزة الإمام الصادق التي دمرها صاروخ إسرائيلي وجعلها رميما في لحظات! فوق ذلك الخراب خرج أحد عناصر حزب الله، وسمح لنا بأخذ الصور واشترط عدم تصوير "العائلات" عندما قرأت لافتة كتب عليها فوق "قبة الحسينية".. تقصف منازلنا ومساجدنا.. ونموت بكرامة فهمت لماذا لم يسمح لنا بتصوير أفراد العائلة، إنها ذات الكرامة التي جعلت سكان الضاحية الجرحى في خطر الاستطباب في المستشفيات الميدانية المصرية والأردنية والسعودية، التي تحولت إلى "مخيمات صيفية" للأطباء بدل المرضى! 100 مقاوم لا يزالون ببنت جبيل! غير بعيد عن تلك الحسينية، قال لي أحد القاطنين بالغازية.. التي شهدت مجزرة فضيحة، وأهوالا كبيرة الأسبوع الماضي، إن هناك في نهاية الطريق لاجئين من الجنوب، ودخلنا الموقع بعد إذن الجيش الذي بدأ يتحرك في هذه المناطق ويجرف الطرقات ليسهل عودة اللاجئين! داخل المدرسة وفي ساحتها عائلات مشردة من عيترون، عيتا الشعب وبنت جبيل، وهناك قصدنا عائلات "بنت جبلية"، رحبت بنا لأننا "جزائريين" ثم قال السيد أمين موسى السيد "نحن صامدون هنا منذ 25 يوما اضطررنا إلى مغادرة البلدة بعدما دمرت إسرائيل منازلنا فوق رؤوسنا وقتلت بعض جيراننا ومزقتهم إربا إربا بالصواريخ التي كانت تتهاطل علينا مثل المطر.. لكن الحمد لله كلنا مقاومة، انتصرنا للسيد حسن نصر الله رغم تهدم منازلنا".. وقال آخر من عائلة محمد الصغير "إن بنت جبيل هي أم المعارك وفيها ذل أولادنا الأبطال الإسرائيليين وأحالوا حياتهم إلى جحيم" أما طفلة بريئة فقالت "نحن فداء السي حسن.. لقد قطعنا الطريق من بنت جبيل إلى كوينين مشيا على الأقدام ودون طعام لعدة أيام، حتى انتشلتنا فرقة الإغاثة وجاءت بنا إلى هنا". نسوة وعجائز صحن "كلنا مقاومة، إن حوالي مئة شاب من أبنائنا لا يزالون في منطقة بنت جبيل.. وبهم لا تخيفنا إسرائيل إن عدنا"، أما امرأة أخرى فقالت "إن الجثث.. جثث بعض جيراننا لا تزال تحت الأنقاض.. وبعضها تعفن وأكلته الكلاب المسعورة في بلدة عيناتا القريبة من بنت جبيل". البوارج الإسرائيلية تقصف المشيعين! غير بعيد عن مدرسة تضم آخر أفواج اللاجئين الذين يستعدون للعودة إلى بلداتهم وضيعاتهم، تقع بلدة الغازية وهي أشبه بحي يقع بضاحية صيدا، عندما دخلناها وجدنا أهلها يصلحون المنازل المهدمة برعاية "الجيش اللبناني"، وبمشاركة عناصر من حزب الله، وعرفنا أن أحد السكان كان حاضرا ساعة وقوع المجزرة، التي بدأت بقصف طال عدة منازل أوقعت 14 شهيدا من عائلات "غدار- الجوني- الشاعر"، معظمهم أطفال ونساء فروا من القصف في الجنوب وجاؤوا هنا، ضمن 70.000 شخص تقاسمنا معهم الحلو والمر الخبز والملح، تضامنا مع المقاومة وأهالي المقاومة! آخر حضر الجنازة وتشييع 14 شخصا اغتالتهم الصواريخ الذكية بجبن وهم في منازلهم، أوضح أن "الضربة الأولى سقطت هنا على هذا المنزل فقتل السيد أحمد خليفة وزوجته تحت الردم".. كما سقط آخرون في المنازل المقصوفة التي تراها على طول هذا الشارع أمامك، لكن وعقب شروعنا في تشييع الموتى وأثناء الجنازة، قصفت البوارج الإسرائيلية الموكب، وسقط 14 شهيدا آخر، بينها عائلة بدران التي محيت من الوجود محوا ولم يعد لها أثر يحمل اسمها، ولحق تسعة أفراد من عائلة خليفة بفقيدهم... ومن شدة الذعر والهول ترك المشيعون النعش في الشارع أرضا وفروا.. لكن بعضهم عاد وأكمل المسيرة غير آبه بالخطر "أرأيت في حياتك دولة إرهاب مثل هذه.. تقتل القتيل.. وتقتل الجنائز أيضا"!، أما علي، الشاب المثقف فعلق على تساؤل "الحاج" "لا تستغرب.. اليهود يعتبرون الشعوب الأخرى منحطة إنهم يلقبونها ب "الڤوييم" ومعناها الحيوانات التي تجيء في الرتبة الأخيرة بعد الحيوان والنبات". على آثار جراح ذاكرة أهل الغازية خرجنا.. لكن الحزن أصبح فرحا بعد قوافل العودة إلى الجنوب، ففي الطرق الرئيسية المؤدية إلى صور.. وما أدراك ما صور كان عناصر حزب الله في أزياء مدنية وشبه عسكرية يوزعون "الحلوى" على آلاف السيارات التي عبرت طريق المقاومة إلى ساحة الانتصار على سياسات التهجير القسري والتطهير العرقي المفضوح!