من الجزائر إلى نيويورك قررت أن أحدث جهازا خاصا للبلديات يرشدها ويتتبع حركاتها: سميته مديرية إرشاد وترقية البلديات الإسلامية وبدأت كتابة دليل لتسيير البلديات: سميته دليل المجالس الشعبية البلدية والولائية يحتوي على ما يلي: 1- قواعد المعاملات الشرعية. 2-في الإدارة والتنظيم. 3- في العمل التقني والتسيير. 4- في المؤسسات. 5- في اللجان الدائمة والمؤقتة. 6- في الجودة والمراقبة. 7- في المراجع والوثائق والمعلوماتية. 8- في استعمال الحاسبات. 9- العلاقات العامة خارج المجالس. لم تمر علينا تلك الأيام بسهولة وكثر الزوار وطالبو الإعانات والفقراء والأرامل والصحافيون والهيئات السياسية من كل فج عميق، عشرات الممثلين للقضية الفلسطينية، لما قلت لأحدهم إنني لا أفهم ما الذي يجعلكم هيئات ومازلتم لم تكونوا دولة فلمَ لا تتحدوا أو تجتمعوا في شكل من الأشكال ويكون لكم ممثل واحد، بدلا من أن يطرق الباب كل صباح وجه بنفس الهم والذي نعرف ونتضامن معه، ثم ما الذي يجعلكم لا تثقون في صورة عرفات كجامع لكم ومتكلم باسمكم.. تبسّم الأخ الفلسطيني وردّ عليّ إنها مسألة غير سهلة.. أما الهاتف فلا أسمعك الله رنينه؛ من الداخل كل البلديات والولايات والجمعيات.. كما بدأت الاقتراحات تتهاطل للمساهمة في بناء الدولة الإسلامية.. بدأت أنظم شؤون البلديات وأتصل بالجهات المسؤولة في وزارة الداخلية لطلب العون أو استفسار، ومنها أن السيد الأمين العام لوزارة الداخلية بعدما لاحظ معي كثرة التدخلات اقترح دورة تكوينية لرؤساء المجالس البلدية الجدد، على يد الوالي و أعوانه، فرحبت بالفكرة وأرسلت إلى المكاتب البلدية لمساعدة إخوانهم وضرورة قبول هذه الدورات التكوينية، والحقيقة أن والي العاصمة في ذلك الحين كان في المستوى، حضر الملتقى تحضيرا جيدا، وزع الوثائق على كل المنتخبين وجاء بفريق في كل اختصاص لتقديم العروض في كل فن.. في نهاية اللقاء تعرفت على الوالي وعرفته بعملي في الج.إ.إ وطلبت منه أن يسمح لنا بالبحث في أرشيف الولاية في الوثائق القديمة حول البلديات، فقال مندهشا ولمَ في الأرشيف، قلت له إنني أريد أن أرجع إلى بداية دخول الاستعمار وكيف وجد المدينة وما هي الخطط التي وضعها، عندما أعاد بناءها وطور الجزء الكبير منها،, أريد أن أعرف بدقة مثلا، مخطط المياه الجارية الصالحة والمياه المستعملة، ففي نيتنا أن نعيد تخطيط المدينة ولابد لنا من جمع هذه المعلومات للخبراء والمهندسين الذين سنكلفهم بهذا المشروع. كان الضجيج في القاعة ولم أدر هل فهمني أم لا ولكن كان جوابه بنعم يمكنكم الاطلاع على الأرشيف والاستفادة منه للعمل به في البلديات. فلو تمت لنا هذه الخطة وأعدنا بناء القنوات الصحية والمياه الصالحة للشرب، لما وقعت كارثة باب الوادي، حيث غمرت المياه البلدية والسيول وغرق من غرق، رحمهم الله.. كنت مولعا بالتخطيط الهندسي للمدن الكبرى مثل نيويورك وموسكو وهامبورغ أين تجد قنوات المياه الجارية، كأنها أودية تحت الأرض، يستطيع العامل أن يسير فيها راجلا أو راكبا، فهي ليست حفر صغيرة وقنوات حديدية تدفن تحت الأرض وتكون نسيجا كالأمعاء يلتوي هنا وهناك ويسيل هنا وينفجر هناك، بل هي مجاري تصلح لقرون وقرون، تكبر المدينة ولا تحتاج إلى إعادة حفر وتوسيع قنواتها، فالأودية سطرت وحفرت على عمق كبير، وبنيت لتتحمل المياه الصالحة والمستعملة وأحبال الكهرباء والهاتف تمر فيها وحتى في الأزمات يمكن اللجوء إليها والاختباء داخلها. هكذا كنت أرى قنوات العاصمة إن كنا نريد عاصمة. أما عاصمة اليوم فليست بمدينة ولكن مجموعة قرى متشابكة وبدون شك ليست عاصمة، التي تسمى عليها دولة إسلامية، فالإسلام لا يرضى لنفسه مدينة عرجاء، بل مدينة بيضاء، منشرحة المنظر، طيبة الرائحة بحدائقها وساحاتها.. كنت أحلم، خير من أن أتشاءم كما فعل الكثير وانتظر النذير.. وبدأ التدعيم يأتينا من كل مكان ومن الجماعات الإسلامية شيئا فشيئا وبشق الأنفس. فكما أخبرني الدكتور حبيب الهدام مشكورا، أنه جمع لنا إطارات لا بأس بها وحبب إليهم ضرورة تدعيمنا في البلديات وقد كان عملا شاقا لإقناعهم بذلك، فلقد احتجوا أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ جرّتهم للعمل السياسي بدون مشورتهم وبدون تحضير. قلت له: وهل كانوا ينتظرون المهدي المنتظر حتى يبدأوا بتحضير أنفسهم. أولا يرون أن العالم انقلب حولهم وسقطت الشيوعية والإمبراطورية السوفيتية والبلدان الاشتراكية وهل ننتظر حتى يدق على أبوابنا وننادى يا مسلمين هلموا للعمل الصالح وبناء دولة الإسلام. فلقد فرشت لكم الأرض زهورا وقازون أخضر لتمشوا عليها، يا المستوى يا ودي.. ولكن في الأخير استطاع إقناعهم بالدخول في المعترك وأخذ القطار جريا وهو يسير.. ومن جماعة السلفية كذلك ومن عموم إطارات وعامة الشعب والمعروفين بالقوميين المنحازين للبعثية، جاءني أحدهم يصول ويجول ويريد أن يؤكد على ضرورة استعمال اللغة العربية فقط في تعاملات المجالس المحلية ويجعل منها الأساس الذي نبني عليه. فلما حاولت تنبيهه أن الجزائريين مبدئيا لا يعادون العربية ولكن ظروفهم التاريخية جعلتهم لا يتقنون الكلام أو العمل بها وعلينا التدرج. صاح منفعلا بكلام غير مقبول، يشيد بالعروبة ولا يريد الفهم أن الإسلام لا يفرض على الناس لغة بل يصف اللغة بأنها آية من آيات الله وبقدر ما يزداد المسلم إيمانا بقدر ما يزداد حبا للعربية، ويرغب في تعلمها وهذا دورنا أن نيسّر لهم طريق تعلمها وسوف يكون لكم دور في هذا المجال. ولكن الرجل كان مغلق الفكر والعقل ويرى لنا مثالا واحدا علينا النظر إليه. وللأسف البعث العراقي والسوري. فلما ذكرته بأن مؤسس حزب البعث اسمه ميشال عفلق، بمجرد ما أذكر اسمه أريد أن أتقيأ، كاد أن يخرج من عقله وانتهت مقابلتنا بمشادات كلامية.. ولكن ما عدا هذا البليد أو كما يسميه الجزائري أطنح، فإن جل زوارنا كانوا متأدبين، محبين لنا، ومعينين بكل ما لديهم وأهمهم ذلك الإطار المهم في حكومة حمروش الذي كان مكلفا بخبرة المؤسسات الاقتصادية وجدوى تدعيمها أو حلها، فهو الذي كان عليه عبء دراسة وتقييمها وإصدار الخلاصة لرئيس الحكومة كما قال ليقبرها أو يعيد لها الحياة. هذا الإطار المختص في المالية والإدارة وتقنيات الفحص والتقييم، سبق له أن عمل في مؤسسات دولية.. قال لي لما رآني أحد الخبراء الدوليين في رواق الحكومة، اندهش وقال له ماذا تفعل هنا بدون حياء وبضحكة، مكانك ليس هنا، كان يعرفه ويعرف قيمته في البنوك الدولية، هذا الأخ كان لا يتقن إلا الفرنسية والأمازيغية وقليلا من العربية، فكان لا يجد من يستقبله في المقر الوطني وخاف منه شبابنا المكلف بالإدارة وظنوا أنه جاسوس من ال:RCd ، فلما جئت وتمركزت في المقر، قدمه لي الأخ سعيد قشي وقال له الآن تستطيع أن تبوح بكل ما لديك للسي يحي وهو الذي يفهمك. قال لي: لقد جاء معه أبوه للمقر ليثبت لنا حسن نيته: كان ذلك الخبير في الشؤون الاقتصادية يود عرض خدمات شتى علينا وكم حاول التكلم مع الشيخ عباسي ولكنه أنهى معه اللقاء بسرعة ولم يفهم لماذا، لأن سيد الشيخ لا يحسن الفرنسية أولا ثم الأمور التقنية والدقيقة التي تغوص به في عالم الخبرات لا يصبر عليها، فهو رجل عموميات وحلول شمولية كلية كما يكررها دائما. المهم أن ما أذكره مهم الآن هو قوله لي: إن الخبراء متفقون على أنه لا يمكن نفخ الروح من جديد في المؤسسات الاقتصادية إلا على حساب خزينة الدولة وبثمن كبير جدا يهلك الجزائريين والدينار، فالتقدير أن مبلغ 150 مليار دينار لتنقية المؤسسات وبجزء كبير منها من العملة الصعبة وهذا ما سيحدث تضخما كبيرا وهبوطا في القدرة الشرائية للمواطن وأزمات كثيرة وقال إن السي حمروش ينوي المضي في هذا الطريق بضخ أولا 50 مليار دينار ثم يرى. قلت له إننا في هذا الحزب مازلنا نعيش في السماء ولم نضع بعد أرجلنا على الواقع وعلى من ستقرأ زبورك يا داوود.. بقينا على اتصال إلى أن حلت الفتنة وقلت له الرجاء أن لا تعاود الدخول إلى هنا، فإنني سأغادر قريبا ولا خير في هذا الحزب وللأسف.. قلت بدأت أنظم شؤوني بجمع المعلومات أولا حول البلديات منذ نشأتها إلى اليوم، كلفت الأخ المرحوم رشيد للذهاب للمكتبة المركزية وطرح المسألة عليهم، بأن يزودوننا بكل ما لديهم حول البلديات من قوانين، كتب، مجلات خرائط منذ العهد الاستعماري، ومجموعة أخرى يقودها الأخ الدكتور أحمد مورد أرسلتها لمؤسسات الأممالمتحدة تطرح عليهم سؤال: نريد كل ما يهم التنمية المحلية والريفية وما هي المؤسسات التي يمكنها تسهيل المهمة علينا..؟ فلما رجع الأخ أحمد مورد قال لي وهو يكاد أن يسقط من الضحك: والله يا الأخ يحي لقد اندهش المسؤول وكرر علينا السؤال: من أي حزب أنتم ؟ فقلنا من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فرح كثيرا ذلك الرجل وفتح لنا ما لديه من مكتبات وأشار إلينا أنه سوف يتصل بنيويورك لجلب كل ما نحتاجه، وأردف يقول: والله إننا هنا في الجزائر منذ قرابة الثلاثين سنة ولم نر يوما واحدا حزب جبهة التحرير يبحث عما تبحثون عنه. فإذا كانت هذه خطتكم فسوف تنجحون محليا ودوليا. قلت للأخ أحمد: هل فهم منك أننا نريد دولة مبنية على قواعد صحيحة، كل عمل يجب أن يعمل حسب المقاييس الدولية وإذا احتجنا للخبراء فسوف نأتي بهم من الأممالمتحدة، فرح الرجل وانطلق فريقي كالبرق يجول في كل وزارة ومؤسسة يجمع المعلومات ويرتبها حسب المواضيع ويضع الأولويات..