محمد الهادي الحسني لم يكتف الأخ عبد العزيز بوتفليقة بإلقاء خطاب في افتتاح لقاء الحكومة بالوُلاة؛ ولكنه عاد في اليوم الثاني لذلك اللقاء (10 / 12 / 2006) ليتدخّل مرة ثانية، مما يدل على تأكده أن الأمور في وطننا لا تسير بصورة سليمة، وأنها "أعقد من ذَنَبِ الضَّبِّ" كماء جاء في المثل العربي. لقد أثار الأخ بوتفليقة في تدخله الثاني كثيرا من القضايا، فانتقد سياسات، وشنّع بتصرفات، وأعطى تعليمات لإصلاح ما أفسده سوء النيات، وتغلُّبُ الشهوات، وَوَهَن الإرادات، وتعفّن الإدارات. من القضايا التي أثارها الأخ بوتفليقة وانتقدها قضية وجود جامعة في كل ولاية، لأن ذلك لا يمسح لأبناء الوطن الواحد في جهاته المختلفة البعيدة أن يتلاقوا، ويتعارفوا ويتواصلوا، حيث يدرس كل واحد منهم التعليم الابتدائي، والمتوسط، والثانوي، والجامعي في مدينته أو ولايته، وقد يؤدي الخدمة الوطنية في ناحيته، وقد يحصل على عمل في جهته، ثم يكمل نصف دينه بإحدى بنات أسرته، أو عشيرته، أو ناحيته، وقد تنتهي حياته وهو لم يغادر منطقته، ولم يعرف وطنه، ولم يتلاق مع أبناء وطنه في النواحي الأخرى. وقد دعا الأخ بوتفليقة، للقضاء على هذه السياسة ذات العواقب الوخيمة، إلى ما سمّاه "الجامعات المتخصصة"، حيث تضم كل جامعة تخصصات محددة، يقبل عليها طلاب الجزائر من جميع الأنحاء، فيحدث بينهم تعارف واندماج، وتتمتّن العلاقات، وتنشأ صداقات، وتتقارب العادات، وتتلاقح الذهنيات، ويتلاشى، أو يخف، السَّيِّءُ من الانتماءات. إن هذه الفكرة جيدة، خاصة أنها جاءت على لسان المسؤول الأول في البلاد. وما أظن أنه تطرق إلى هذه القضية الهامة إلا لأنه تنبّه -أو نُبِّه- إلى خطأ السياسة المتبعة في هذا الشأن، وخطرها على البعد الوطني في المديين المتوسط والبعيد. والحقيقة هي أن هذه الفكرة التي دعا إليها الأخ بوتفليقة ليست جديدة، فأنا أذكر أن أستاذي أبا القاسم سعد الله قد دعا إليها في مقال نشره في جريدة المجاهد الأسبوعية (17 جوان 1983) تحت عنوان: "نحو جامعة وطنية"، ثم نشره في كتابه "أفكار جامحة" (1988). وقد علمتُ أن مقال الدكتور سعد الله رفضت نشره جريدة الشعب، وما نشرته جريدة "المجاهد" إلا بعد تدخل أحد المسؤولين (ع.ح.م)، وعندما نشرته كتبت في الأذَُيْن الأعلى للصفحة كلمة "رأي خاص" أو "وجهة نظر"، كأنها تتبرأ مما فيه من أفكار، كما علمت أن بعض "المسؤولين"، الذين لا يرون أبعد من أنوفهم، غضبوا من المقال وصاحبه، وربما ودّوا الإساءة إليه، لأنه -في فهمهم- يُشَوِّشُ على سياسة "وطنية، حكيمة". أكد الدكتور سعد الله في مقاله "أن الجامعة مؤسسة وطنية قبل أن تكون مؤسسة أكاديمية، وباعتبارها مؤسسة وطنية يفترض فيها أن توحد ولا تفرق، وأن تجمع ولا تشتِّت". (أفكار جامحة. ص 163). وقد شبه الدكتور الجامعة بالمدرسة العسكرية التي "تُوحِّدُ قيادة الأمة، وتجمعها على مبادىء ومثل عليا، يعتبر التخلي عنها مدعاة للهزيمة والفرقة". (ص 164). وتعليقا على ما صدر من إحدى الجامعات من أصوات تدعو إلى النزعة العرقية -الانفصالية، قال الدكتور سعد الله: "والدعوة إلى الانفصال في الجامعة تعادل في نظري حركة التمرد في الجيش، كلتاهما تستوجب الموقف الحازم، والعقاب الصارم". (ص 164). لا يظنن أحد أن الدكتور أبا القاسم سعد الله ضد فكرة زرع جامعة في كل ولاية، فذلك - كما يؤكد- "شيء جميل ومحبب ومطمح لا نظن أن هناك من يعارضه من حيث المبدأ" (ص 164)؛ ولكنه يدعو إلى تحصين هذا الوجود بتوفير عدة شروط، تضمن -إن توافرت- تخريج إطارات ذات نظرة وطنية، وأفق واسع، وشعور بالانتماء إلى الوطن، وولاء نحو هذا الوطن، واقتناع بمبادئه ومقوماته، وعمل دائب على ترسيخ هذه المبادىء، وتعميق هذه المقومات، لأن ما توجد عليه الجامعات الآن من سيطرة لنزعة الجهوية، والانغلاق على لغة أجنبية (الفرنسية) على حساب اللغة الوطنية، واللغات الأجنبية الأخرى، ومن تشجيع للخرافات والأساطير تحت شعار "الأدب الشعبي"؛ كل ذلك لا يبشر بالخير، ولا يدعو إلى الاطمئنان على مستقبل هذا الوطن، لأن خريجي هذه الجامعات هم الذين سيتولون زمام الأمور في هذا الوطن، ويديرن شؤونه، ويخططون سياسته في جميع الميادين. إن الأمور المتعلقة بتكوين المواطن وتنشئته العلمية لا تسند في الدول الحريصة على مستقبلها إلا إلى الراسخين في العلم، الأغنياء في التجربة، المخلصين في التوجه، ذوي الأنظار البعيدة والآراء السديدة، ولا تُوكَل إلى أصحاب الأهواء، والمُسْتَلبِينَ، واللامُنْتَمين، وذوي النزعات العرقية والجهوية. لقد شاهدنا، عندما أُسْنِد أمر إصلاح المنظومة التربوية إلى أناس ليس لهم في هذا الميدان لا رأي سديد، ولا فكر رشيد، ولا تجربة متميزة، ولا نية طيبة؛ بل إن بعضهم معقدون نفسيا ومحدودون علميا، ومستلبون فكريا، ومنهزمون حضاريا؛ أقول شاهدنا نتائج هذا الإصلاح السيئة في بداية تطبيق هذه المنظومة. ولئن تَمَّ التراجع عن بعض اقتراحات تلك اللجنة (تدريس الفرنسية في السنة الثانية ابتدائي)؛ فإن الاقتراحات الأخرى ما تزال تُطبَّق، وعما قريب ستظهر نتائجها السيئة، وسندفع ثمنا باهضا بسببها، وعندها سيقال لنا: "إنْ أَرَدْنَا إلا إحْسَانًا وتوفيقا" إن علة مسؤولينا هي أنهم لا يُلْقُون السمع لآراء أهل الذكر، وتأخذهم عزة المسؤولية، وإذا عينوا شخصا من أهل الذكر في منصب مستشار في ميدان من الميادين فإنهم لا يأخذون بما يشير به. أو يَكُونُ هذا المستشار مُصَابًا بداء الوظيفة، وهو التملق والجُبْن، فلا يشير بما هو صالح ومفيد، خشية معاكسة هوى المسؤول فينهي مهامه، ويضطر -حفاظا على المنصب ومزاياه- أن يتملق فيُسَايره في هواه، والخاسر الأول والآخر هو الوطن. ومن الأدلة على أن مسؤولينا لهم آذان لا يسمعون بها النصيحة، ولهم أعين لا يقرأون بها الاقتراحات المليحة، ما كتبه الأستاذ مالك بن نبي في جريدة الجمهورية الجزائرية في 30 / 4 / 1954 تحت عنوان "من أجل إصلاح التراب الجزائري"(1)، وذلك بعد أن لاحظ زحف الرمال على الأراضي الزراعية، وهو ما سماه باللغة الفرنسية "Saharisation".. ومن الصدف أن الأخ بوتفليقة أشار أيضا في تدخله إلى هذه المشكلة، وعلينا أن نقدر كم ضيعنا من وقت، وكم خسرنا من هكتارات منذ اقترح ابن نبي هذه الفكرة إلى اليوم الذي نبه إلى خطرها الأخ بوتفليقة.. نعم، إن الفكرة لم تكن ممكنة التطبيق عندما كتب الأستاذ ابن نبي مقاله، لأن أمرنا لم يكن بيدنا، وكنا تحت ذلك الاستدمار الفرنسي الخبيث، ولكن كان يمكن أن نضعها على رأس الأولويات بعد أن استرجعنا استقلالنا، وطردنا عدونا. ونعم -مرة أخرى- لقد بدأنا فى السبعينيات من القرن الماضي مشروعا عظيما سمّي "السد الأخضر"، ولكننا لم نأخذه بقوة، ولم نستمر فيه، فماتت أغلبية الشجيرات التي غرست، وأكلت الحيوانات جزءا منها، وأتى الإنسان على البقية الباقية، فاستمرت المشكلة، أو قل إنها استفحلت. إن الأمر الذي يتمناه كل جزائري صحيح الفكر، سليم القلب، طاهر اليد، صادق الولاء من الأخ بوتفليقة وقد تنبه -أو نبَّهَه رجل صالح- إلى خطورة هذين الأمرين وأهميتهما؛ أن يبادر إلى تكليف أهل الذكر في هذين الميدانين وفي غيرهما من الذين ليست لهم أطماع شخصية، ولا هدف لهم إلا خدمة الجزائر الغالية، ليعدوا له دراسات، ويقدموا له اقتراحات يقيم عليها سياسته في إصلاح الأمور، لأن لجان الإصلاحات السابقة ليس لأكثرها من الإصلاح إلا الاسم، وذلك حتى لا يذهب كلامه مع الريح. --------- 1) انظركتاب: في مهب المعركة، للأستاذ مالك بن نبي.