( تابع..) لا عليك يا "أسعيد " هوّن الأمر ولا تحمّل قلبك ما لا يطيق..إنما الغد أبهى وأجمل .. -أو تظنين ذلك ؟ -بل أنا على يقين .. -إذن فلتكملي ما قاطعتك فيه .. -اجل ..كما ..أخبرتك..فلقد كان الواقف أمامي يحدثني بصدق ونقل صحيح..ولا أخفي عنك أمرا إن قلت إن الحنين شدني إلى البقاع التي وصفها لولا أن خيالا تشكل في نفسي وارتسم جليا بين عيوني كخيوط الصبح.. -وما هو الخيال ؟ - رأيت حدائق أمامي معلقة رائعة..وعلى أفنانها تغرد البلابل وتشدو الشحارير..سواقي من ذهب أسود كانت تجري معكرة ملتهبة .. -سواق من ذهب أسود . -لا تعجب ..سواق عكرة ..اندلعت منها نيران كجهنم لا حدود تحدها ولا أفاق تحتويها ..ورأيت الشوارع يعّمرها الخراب..وبشر من كل الأجناس يتسكعون فيها ..وفتنة عظمى تشتعل فتحيل أبناء المدينة أعداء وقد كانوا إخوة فذاك هلال يرتعش..وذاك صليب معلق في كل الواجهات ..وتلك نجمة سداسية ظاهرة في خفائها ..فاعلة في بعدها ..حاضرة في غيابها فحز الأمر في نفسي الأمر ..وأدركت أن امرأة مثلي .. لا تصلح أن تكون هناك..فيكفي خواطري تمزقا ..فكيف لي أن أعايش التمزق و أعيشه مرتين ..فقلبي صار لا يحتمل و لو عبرت بكل اللغات كما يفعلون هم ومن هم ؟ الشعراء طبعا .. الشعراء ؟..وما جعلهم من حديثنا ؟ آه..ستعرف محلهم عندما أحكي لك قصة الشاعر الذي حضر مجلسنا ذاك الأحد..طامعا في الأميرة..حاملا لواء الشعراء الذين أسسوا مدينة..كان يرغب الشاعر القادم أن يقودني إليها.. في هودج من سحر بيانه و في قفار خيالاته وقوافيه ،وزادنا حينها أطباقا من حب ،شوق،حنين..وأوهام .. هلا حدثتني عن هذه المدينة الغريبة ..مدينة الشعراء؟ -لك ذلك ..يا .."أسعيد لحنين " ..وقف سادسهم وقلبه باسط جناحيه أمامي وقال بلغة تقطر دفئا ..وتتوشح سحرا وتفترش بيانا وبديعا : " أميرتي الحسناء الحزينة ..لم أر وجهك الملائكي قبل هذا اليوم ..ولكن وجنتيك المجعدتين أوحتا لي بأن سيل دموعك الطاهرة لم ينقطع بعد..وإني لناس ما جئتك به ومن اجله ..،ناصحا إياك يا قرة عين الملك وجوهرة القصر أن تقرئي في عيوني بعضا من أسفار التجلد ..والصبر ..وتدرئي عنك كل مواويل الأسى والضجر ..وإني لك ناصح أمين ..أخشى عليك من أن تغرقي كما غرق " الوضاح الصنديد" في دمعة من عيون السندباد" -اندهشت الأمير ة وفتحت عينيها جيدا واستغربت الحديث ..من حيث إنه لا يمكن لإنسان بشحمه ولحمه أن يغرق في دمعة ..ومن حيث إنها قرأت عن السندباد ..ولكن لم تسمع قط عن" الوضاح الصنديد" فاعتدلت في جلستها و تابع حديثه : كنت أهوى البحر منذ الصغر ..وإني لمتتبع لآثار كل من غامر صوبه ..وجالس شواطئه أغلب أوقاتي ..ليلا ونهارا ..أبوح له بأسراري ..ولم أبلغ العاشرة بعد من عمري وكم أستلطفه أن يبوح لي بسر واحد من أسراره ولكنني كلما طلبت منه اضطربت أمواجه و تلاطمت ..وسمعت له أنينا في ظلمات الأعماق ..وذات مساء كنت كذلك أهيم به صامتا حتى رست على الشاطئ سفينة لا راية لها ..ولا شراع..ونزل من كان عليها وحيدا..وجالسني لا كلام ولا سلام .. وتسامرنا على كؤوس من دهشة واغتراب ..وكأنه عاهد نفسه ألا يكلم الناس عمرا سويا .. ثم عاد ليتركني فذهبت لأتمسك به ..ولما فتح القمر عيونه وقت السحر كنا معا على ظهر السفينة و البحر حينها مازال له أنين ..فقال ذلك الرجل ..وعيناه معلقتان بشرفات القمر :" لا تحزن على هجرك للديار يا صغيري ولا تيأس على فقدك لأهلك ..وهل لك أهل ؟..براءة مثلك متروكة في الخلاء مشرودة ..أب ارتكب خطيئته وما كفر عنها وأم استعبدتها النزوة فصارت سيدة على قلوب الضعاف من البشر ..ومدينة استصغرتك وقزمت فيك الإرادة و التحدي..وفطمتك قبل الأوان و منحت جسدها كله للغواية.. والبغاء..أي مدينة تستحق لحظة تفكير من عقل كله نقاء..وعطاء وحسن تدبير ؟!يتبع