يمثل قرار الرئيس «بوتفليقة» رفع التجريم عن جنح الصحافة تعبيرا واضحا عن النية في توسيع هامش الحرية أمام الصحافة المكتوبة التي تمثل تجربة متميزة في العالم العربي والبلدان النامية رغم العوائق التي تعترضها، ويمثل تعزيز حرية التعبير جزء مهما من مشروع إعادة بناء منظومة وطنية للإعلام أحد أهم المطالب التي ظل الصحافيون يرفعونها منذ عشرة أعوام هو رفع التجريم عن جنح الصحافة، فقد كان تضمين جنحة القذف في قانون العقوبات سنة 2001 قد أثار غضب العاملين في قطاع الإعلام خاصة بعد أن نص القانون على جعل الحبس هو عقوبة المدان بتهمة القذف، وقد عارضت منظمات في الجزائر وخارجها هذا الخيار ودعت إلى الإبقاء على الغرامات المالية، ولم تر أي مانع من إخضاع الصحافي إلى القانون كبقية المواطنين لكن عقوبة السجن بدت كعائق كبير أمام الصحافة المكتوبة التي تبقى الوحيدة القادرة على تشكيل قوة توازن على الساحة الإعلامية في ظل تأخر فتح القطاع السمعي البصري أمام الخواص. والحقيقة أن قرار الرئيس بوتفليقة ليس مجرد استجابة لمطلب مرفوع منذ سنوات، فخلال العشرية الماضية التي تم فيها إدراج جنح الصحافة في قانون العقوبات لم يتم سجن أي صحافي بسبب ما كتبه، ولم تفرض أية غرامة مالية على جريدة بسبب خطها الافتتاحي أو لأنها أدينت في قضية قذف، ولم يتم تعليق أي صحيفة خلال العشريتين الماضيتين، وهو ما يعني أن القانون لم يكن في حد ذاته عائقا أمام حرية الصحافة، وهذا يقود إلى وضع القرار الأخير للرئيس ضمن خطة متكاملة تقوم على إعادة بناء منظومة الإعلام. رفع التجريم عن جنح الصحافة صاحبه الاستعداد لاعتماد قانون جديد للإعلام، وقد جاءت الحاجة إلى هذا القانون بعد التحولات التي شهدها سوق الإعلام في الجزائر، فقد ظهرت الصحافة الإلكترونية وأثرت وسائل الاتصال الحديثة بشكل كبير على طريقة ممارسة المهنة، بل إن الصحافة المكتوبة أصبحت مهددة بالاختفاء بسبب هذه التطورات، غير أن المشكلة الأساسية هي في تراجع مصداقية هذه الصحافة بسبب غياب تكوين الصحافيين، والاعتماد على الانترنيت دون امتلاك التقنيات التي تسمح باستعمال محترف لهذه الوسيلة الإعلامية، فضلا عن عدم وجود نصوص قانونية واضحة تنظم سوق الإشهار، وتضبط عمليات سبر الآراء التي أصبحت من ضمن أدوات التأثير في الرأي العام وتوجهاته. وإلى جانب هذه القضايا، ينتظر قطاع الإعلام إعادة تنظيم العلاقات داخل المؤسسات الإعلامية، ويمر هذا عبر توضيح وضع الصحافي، وخلال السنوات الأخيرة طرح مشروع اعتماد بطاقة وطنية للصحافي، وجرى الحديث عن شروط منح هذه البطاقة وتحديد حقوق الصحافيين والتزاماتهم، وقد أشار مسؤولون في القطاع إلى أن الحديث عن الحق في الوصول إلى المعلومة يمر حتما عبر تنظيم مهنة الصحافة، وتحديد من هو الصحافي، ودون ذلك لا يمكن للمؤسسات الرسمية أن تنفتح على كل من يحمل بطاقة صحافي، وهي بطاقة تمنحها الجرائد الخاصة دون أية شروط. هذا التوصيف من جانب الجهات الرسمية للوضع الذي آلت إليه الصحافة في الجزائر يخفي اختلافا كبيرا في وجهات النظر بين المنتمين إلى المهنة، والوصاية، فالنقاش حسب الناشرين أو الصحافيين يجب أن ينصب أولا حول هامش الحرية الذي يجب أن يتوفر للصحافة، والأمر حسبهم يتعلق بخيارات سياسية في المقام الأول، غير أن الموقف لا يبدو موحدا، فهناك خلافات كبيرة بين الصحافيين والناشرين حول قضايا مهنية واجتماعية، وخلال السنوات الأخيرة ازداد تأثير دوائر المال على الصحافة، وقد بدأت بعض المؤسسات الاقتصادية تمارس الضغط وتوجه الصحافة حسب مصالحها، وهنا برزت مشكلة تقاطع مصالح أرباب المال مع الناشرين، وهو الأمر الذي تريد الوصاية أن تعالجه من الآن، غير أن المشكلة الأساسية التي تطرح على هذا المستوى تتعلق بغياب تنظيم نقابي تمثيلي يمكنه حمل مطالب الصحافيين والدفاع عن مصالحهم. تنظيم الصحافة المكتوبة وتعزيز مكانتها من خلال منحها مزيدا من الحرية يجعلها أداة فاعلة في تحضير المجتمع إلى انفتاح أكبر، وهنا تطرح مسألة الإعلام السمعي البصري وعدم فتحه أمام الخواص، فهذا التريث في السماح ببروز قنوات إذاعية وتلفزيونية خاصة يمنح الصحافة المكتوبة مزيدا من الوقت لاحتلال مكانة في ميدان التأثير في الرأي العام ولاكتساب المصداقية من خلال الالتزام بقواعد المهنية، وستكون المرحلة القادمة حاسمة في صياغة مستقبل حرية التعبير في الجزائر التي تحتاج إلى منظومة متكاملة لحمايتها من سطوة المال التي بدأت تؤثر على السياسة والاقتصاد بشكل واضح ومثير للقلق.