بقلم: دينا سليم/ فلسطين لقد اتهموني بالغباء، أيمكن أن أحاول الانتحار، وهل سيخرب العالم إن فعلت، ومن يكترث؟ كما اتهموا والدتي محاولتها لقتلي، هذه المرأة التي يعيش كل صفاء الكون داخلها، يا لغبائهم! سأروي لكم الحكاية، واحكموا أنتم من هم الأغبياء. أمضيت يومان كاملان في قسم الطوارئ، وكل الذي أذكره هو أني كنت أسبح في الفضاء الخارجي مع الملائكة، لم تكن هناك ملائكة، لا لم تكن، بل كانت، لا أذكر، أعتقد أنه... لا أعرف، بل صدّقوني لم يكن هناك أي شيء، وإن اعتقد بعضكم بهذا، فهذا صلب من الغباء، والحقيقة هي ولكي أكون نزيها معكم، لست أذكر مع من التقيتُ بينما كنت أتردد الدخول إلى العالم الآخر... مجهول قادني إليه، كل الذي أذكره الظلام الدامس من حولي ووجه والدتي يتراءى لي من بعيد وهي تبكي، غبية أمي، ألا يكفيها من عذاب، ربع قرن وهي تحاول إعادتي من الموت وتنجح، تعرفون لماذا؟ لأنها كانت تدعي لي يوميا في صلاتها بالبقاء على قيد الحياة، ألم أقل لكم أنها امرأة غبية! قالوا لي أني تناولت وجبة مضاعفة من المخدر، أنا لست مدمنا على المخدرات، فلا تسيئوا الظن بي، وصدقوني أني لا أعرف له طعما رغم أني أعتاش عليه يوميا وبدونه يختل توازني ويبدأ الوجع ينهش فيّ وينغص عليّ حياتي، لئيم هذا الوجع، تموت شهيتي للطعام، ويضمحل جسدي، فأبدو كهيكل عظمي متحرك، أنطوي على نفسي، فأسكن مخدعي الصغير، أجلس في العتمة، وأشاهد برامج السحر والشعوذة، أحب متابعتها جدا فهي تزيد رغبتي للحياة، الحياة؟ كم قصيرة هذه الكلمة كقصر سنوات عمري، قالوا لي الأطباء أن حياتي ستكون قصيرة جدا، أغبياء، إنهم لا يفهمون أنهم يتلاعبون بشؤون الله، دائما يخفقون! تعودت وفي كل سنة تمرّ عليّ وأنا حيّ يرزق الذهاب الى طبيبي الخاص وأريه أني ما أزال على قيد الحياة، يستغرب ذلك، يعبس وجهه ويقول: نحن نعجز عن معرفة السبب! عن أي سبب تتحدث يا دكتور؟ سبب بقاؤكَ حيا حتى هذا اليوم، نتائج الفحوص المخبرية سلبية فكيف تعيش بهذه الظروف، هل تحب الحياة الى هذه الدرجة؟ أحيانا أطلب النجاة من الحياة بالموت، لكن لا تخبروا الطبيب بذلك، فواحد مثلي أرهقته سنوات المرض الذي كان من المحتم عليّ مقاومته، هذا السرطان اللّعين الذي نخر عظامي، وقوّض سلسلة ظهري وأظهرني محدودبا، فأصبحت أخطو كالجمل السكران في رمال صحراوية، أصبحت أحدبا مثل (أحدب نوتردام)، نعم هو ما آل اليه حالي الآن، فلا تشفقون علي، لأني أكره نظرات الشفقة التي أراها كل يوم في عيون الآخرين... خرجنا من المستشفى، أنا ووالدتي التي لم ترَ طعما للنوم أياما، وبعد إصراري على ذلك وعلى عاتقي، وقّعتُ عن نفسي وثيقة تحرير من المشفى، وطالبوا والدتي التوقيع شاهدة على توقيعي، يخافون عليّ هؤلاء الأغبياء، لكني رفضت العودة إلى البيت، أردت أن استنشق من بعض هواء مدينتي الجميلة، فأخذتني والدتي الى الشوارع المكتظة بالناس تسوقني بكل مودة من يدي كطفل حديث المشي، مسكينة والدتي، طفلها يكبر ويصبح شابا، بدلا أن تتعكز عليه هي يتعكز هو عليها، ودائما أطرح سؤالا يخيفني: على من ستتعكز والدتي يا ترى؟ هل تكلم نفسكَ يا بنيّ؟ سألتني هذه الأم الرؤوم، لكني أجبتها بخبث: أنتِ واهمة، هل بدأ الخرف يزحف إلى رأسكِ الصغير هذا يا أمي؟ غبيّ أنت إن كنت تظن ذلك، والدتك لن تخرف أبدا! وكثر الأغبياء من حولي، أقصد الناس، عذرا، أرجوكم لا تغضبوا مني، وبعد مغادرتي للمستشفى، وبعد نجاتي من الموت الأكيد الذي هو محتم عليّ، لقد حقنني الأطباء بمادة تذيب السّموم من جسدي، وغسلوا لي معدتي، لو تدرون كم مصل دخل شراييني خلال خمسة وعشرين عام، فقد دام مرضي ربع قرن، كم كرهتكم أيها المعافون الأصحاء، جميعكم أغبياء، تخافون المرض، أنا فقط الشجاع الذي يقاومه ولا يخشاه! أنا لا أشتم... بل هي ذرابة لسان! أشتهي البوح بكل ما يجول خاطري المتوهم بالخلاص، أريد أن أشتم، أصرخ وأحتج، هل تعتقدون أنني سوف أتخلص من هذا المرض، أنتم واهمون، لكن لا أحد يبتّ بالأمر سواه. ولأنكم غير مدربين على الصّبر مثلي، ولكي لا تغضبوا مني سأكمل لكم القصة، فاستمعوا: سرنا معا في الشارع، مررنا عن صحبة مكونة من شاب يحاول العزف على آلة قديمة أوتارها صدئة، لكنه مهما تدرب على العزف فلن يصبح عازفا، عادة متجددة لظاهرة التسوّل من أجل شراء وجبة المخدر اليومية، تحيطه أربعة شابات جميلات، شقراوات، شعرهن ناعم مثل الحرير، قدهن أهيف، عيونهن ملونة، شفاههن شهية وأنوفهن مصقولة، لو تعلمون كم أحب بنات حواء! فما كان مني سوى أن أهجم على حقيبة والدتي، أخرج منها المحفظة مليئة بالدولارات وبدون أن أحصيها رميتها لهم وأنا سعيد، اليوم بالذات بدأت أحب الآخرين، بعدما غرفت من طعم الموت القليل، ووالدتي تتمنع قائلة: ويحكَ، ماذا تفعل يا بني؟ لا تكوني بخيلة يا والدتي، سأعوضكِ، لا تكترثي للمال! أنا لا أكترث سوى لهؤلاء الشباب الذين بدأوا يحترفون كل السّبل من أجل اقتنائهم للمخدر، خسارة لكل هذا الشباب والجمال أن يذهب هباء. دعيهم يتخدرون، هو اختيارهم، أنا أشتري العمر وأسرقه من القدر بلا حياء، وهم يبيعونه بالرّخص المجاني، هباء... أغبياء... ألم أقل لكم أنهم أغبياء!