(تابع).. وحده النحت من ينزع عني همومي ،من يغسل غربتي ،من يفضح كبوتي لا لشيء إلا لأخرج من جنبي الحياة مرة أخرى ،حياة في حجر خير من ذكرى لا تذكرها إلا عيناك ..فتموت الذاكرة ويبقى الحجر .. دائما يموت الحبيب على قبر النسيان ليلتصق بمنحوتة المحبوبة ..هل كنا نسمع بيوليوس قيصر لولا منحوتة كليوبترا ..ذلك الرجل المسكين الذي أسرته امرأة.. تاريخ الرجال ليس كما يُروى علينا نحن ضعاف الفهم من أنه تاريخ الكراسي هو الكذب الذي ظلت تروج له الأوراق بل التاريخ الذي يجب أن نؤرخ له هو تاريخ الأسرة .. فهاأنا فرنشيسكا لو لم يكن حبك من نحت رجل بحجم التاريخ هل كان أحدا يسمع عن نضالي وبطولاتي ..كل المؤرخين يعرفون دوري في الثورة و لكن لا واحد قبل اليوم عرف من صنع لي هذا التاريخ ...من كان يملأ سيرتي ومن يضخ داخلي كل هذا الإخلاص ..لا أحد يعرف هذا ..لأنها لغة لا يكتبها إلا القلب ..لغة نحتُها في أكثر المدن شموخا .. على الرغم من أنه لم يجمعنا في يوم فراش إلا مسار نحتك تحت شجرة الصفصاف و بمحاذاة جسر القطار ..حين أخذت معك طريق القراءة و الكتابة وصرت أفهم أشياء كثيرة عن التاريخ و الفلسفة و الجمال ..تعلمت معك كيف أرضع الحرف ..و كيف أبتز الكلمات حين تكشف لي عن فتنتها ..قلت لك : لماذا تعلمينني كل هذا ..؟ قلت لي: ليسهل التفاهم .. قلت هامسا في عينيك : ألم يكفنا الجسد، خير معلم .. علمتني ثقافتكم، وعلمتك عاداتنا وتقاليدنا ، قرأت لك ألف ليلة و ليلة فكنت أحسن القراءة بالعربية ..أضافت لي الفرنسية سبيلا جديدا نحو الفهم ..وازداد والدك إعجابا بي ..لذا و بعد سنوات صرت القائم بكل أعماله .. لا زلت إلى الآن أذكرك سؤالك فرنشيسكا : قادر كيف تعلمت النحت ..؟ ها هو الموت فرنشيسكا أغنيتنا المفضلة ..لماذا ترانا نعشق قتل أنفسنا على كل الحالات التي يألفها البشر ...هنا في هذا البلد لم يستسلم الخوارج يوما...حتى في الأعياد كانوا يسمون موتاهم قربانا ... استغربت كثيرا هذا المصطلح لكنني في الحصيلة وجدته مفهوما متجذرا في ثقافتنا ..كم قربانا قدمنا لك أيها الوطن ..هل هناك أكثر من أن يقدم الإنسان نفسه قربانا ..؟ منذ مدة قرأت مقالا في جريدة الخبر عن اعترافات إرهابي قدم خمسين قربانا و لكنه نسي أنه أكبر قربان سأله الصحفي : كيف استطعت أن تقتل كل هؤلاء الناس ؟ الإرهابي ببرودة يخالطها حسن التخلص بعد أن رفع كتفيه قليلا : هكذا، لقد كانت تأتينا الفتاوى ونحن ننفذها ... الصحافي مستفزا : هل كنت مقتنعا بقرابينك ....؟ الإرهابي : ماذا تعني بمقتنع ... يعني هل أنت الآن فخور بقتلك لكل هذا العدد من الناس ... غرس الإرهابي رأسه في الأرض ...إن قلت أني مقتنع أكذب ...لا أعرف كيف كنت أقطع الرؤوس بهذه الأيدي...لم أكن يوما ككل الناس ... حلمت دوما أنني شخصا مهم كبرت و شيء في قلبي ينقص كل يوم ...كم بابا طرقت وكم طلبا للعمل كتبت كانت كل الدنيا تأخذ شكلا غير محدد بالنسبة لي ، كرهت كل شيء ..لم أفهم أي شيء ..بل لا أذكر حتى كيف ماتت أمي.. قال لي بعضهم إنني منذ مدّة تزيد على العام وأنا في مستشفي الأمراض العقلية، قيل لي إنني كنت من أكبر متناولي المخدرات ، قتلت أمي لأنها منعتني من سرقت مجوهراتها .. نظر الإرهابي إلى الصحفي و كله ريبة من أن كل الذي يرويه بلسانه كذب ...حتى قال : خرجت من المستشفي بعد أن زعم الأطباء أني شفيت تماما من مرضي ..كان وقتها الحزب المحظور على أشده حتى وجدتني انخرطت في صفوفه..أم هم من انخرط في مشاكلي ،صار الحزب بالنسبة لي كل شيء ...أمي التي فقدتها ..أنا لم أفعل سوى أنني دافعت عن والدتي ... لم أسأل نفسي لماذا أنا على هذه الشاكلة ،المهم يعطى لي الأمر ليجد طريقه للتنفيذ على يدي ...يكفي فقط أن يتلو أبو حمزة مفتي الجماعة خطبته لأجد يداي تتحرك لهفا لغسل الحياة من الدنس....لم أكن أبدا أفهم ما يقول ..حديثا طويلا مشفوعا بالآيات والأحاديث ....لتجد الكل يردد الله أكبر ..الله أكبر أما أنا فكنت أقدس كل طريق فيه دم...حتى منظر الدم لم يكن غريبا علي ..صار أشبه بالماء لا أذكر طوال هذه السنوات أني شربت ماءا بل كنت أشرب الدماء لا أنكر أنه لم يسلبني شيئا مثلما سلبتي كلمة قربان ...كنت أعتقد أن هؤلاء الذين نقتلهم كفارا ... الصحافي : ما الذي دفعك إلى تسليم نفسك ؟ لا أعلم لماذا سلمت نفسي ربما لأنني مللت حياتي...أو ربما لأنني أفقت ...لا بل لأن أمي كانت تأتيني في المنام وتقول: انهض ...إلى متى و أنت نائم ... منذ المرة الألف التي راودني فيها ذلك الحلم صرت أنظر إلى نفسي نظرة أخرى...صرت أشعر أنني مخدر بتلك الكلمات الممططة التي اعتدت سماعها و ما صارت تحدث فيَّ بريقها الأول ....في تلك الساعة التي صحت فيها أذكر أننا كنا متوجهين إلى إحدى المزارع لتصفية عائلة قالوا إنها شيوعية ... دخلنا البيت لنجد العائلة ترقد في حضن الحب الذي لم أستنشقه إلا في حضن أمي، لا أدرى لماذا دمعت عيناي تلك اللحظة ؟ أول مرة أذوق طعم الدموع صرت أتحسسها بيدي بعد أن قتلوا الأب والأم لا زلت منهمكا في دموعي...ماذا حدث لها ..حتى وجدت الجماعة مقبلة على ولد صغير كم أحسست أنه أنا حين فصلت عن أمي نظرت إليهم و بعضهم يحاول أن يقتله.. لم أفعل شيئا إلا أني سحبت سكيني البوسعادي فقتلت ذلك الكلب وأعدت الطفل إلي مكانه و صرت أنظر إليه وهو ينظر إلي وابتسامة خافتة تخاف من الموت تنبعث من بين شفتيه .... خرجت من الدار لأرى الجماعة محتفية بنصرها وفي الليل وقعت عليهم واحدا واحدا أتممت بهم عدة الكره وقدمت هنا فسلمت نفسي ... نظر الصحافي إلى الإرهابي زمنا ثم انصرف دون أن يعلق .... على الصفحة نفسها ذكرت عجوزا في الثمانين بعض قدرها مع الإرهاب قالت: تلبدت السماء دفعت واحدة وانقرضت الشمس مغمضة عينيها مرة واحدة.. تلاشت أمواج البشر في الأفاق في لمحة البصر ..لم تبق إلا أوراق الشجر تُحرِّكُها الريح في كل اتجاه.. وأنين طفل من وراء الجدار يزحف نحو الجيران بحنين ..لم يجرأ أحد على الخروج ..سكن الرعب الحي ..