أسقط رئيس حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري مطلب تفعيل المادة 88 من الدستور واعتبر أنه من غير الأخلاقي رفع هذا المطلب أو الحديث عن صحة الرئيس بوتفليقة، ويمثل هذا الموقف تغيرا لافتا في توجهات الرجل الذي بدأ يستجيب لمتطلبات منصب رئيس حمس الذي يشغله منذ شهر ماي الماضي. بدأت لهجة مقري تخف حدتها، وكعادة قادة حركة مجتمع السلم فكل تصريح يدلي به يتعرض إلى تفسير من أجل تجنب شبهة تغيير المواقف والمواقع، فبعد تصريحاته لدى افتتاح أشغال اجتماع المجلس الشورى نهاية الأسبوع الماضي، والتي قال فيها "لا تسمح لنا أخلاقنا أن ندخل في جدال حول صحته، ولا عن المادة 88 من الدستور، لكننا نسأل هل الانتخابات الرئاسية المقبلة ستكون نزيهة وفرصة للانتقال الديمقراطي"، عاد ليبرر موقفه بالقول " نحن لم نطالب منذ مرض الرئيس بتطبيق المادة 88 لأننا ببساطة لا نعرف طبيعة مرضه ولا يوجد تقرير طبي بين يدينا يؤكد هل مرضه عائق لأداء مهامه أم لا"، والحقيقة أن حمس كانت ضمن المطالبين بتفعيل المادة 88 وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة. تغير خطاب مقري يعتبر مؤشرا على اعتماد الحركة موقفا أكثر مرونة، فقد حدث في السابق أن تغيرت مواقف الرئيس السابق لحمس أبو جرة سلطاني والذي لعب دور المعارض من الداخل في فترة الشيخ الراحل محفوظ نحناح، غير أن مواقفه تحولت بشكل عميق عندما تولى رئاسة الحركة، وبالنسبة لمقري كان التحول إلى المعارضة شرطا أساسيا لاستعادة حمس مصداقيتها لدى القواعد وإعادة جمع الإسلاميين الذين أثبتت الانتخابات الأخيرة أنهم خسروا كثيرا من المواقع التي كانوا يحتلونها، غير أنه منذ انتخابه رئيسا للحركة لم يكف عن إطلاق إشارات توحي بأن خيار المعارضة ليس نهائيا وأن الأمر لا يتعلق بقطع شعرة معاوية مع السلطة، وفي أحد تصريحاته قال مقري " حمس لم تشتر تذكرة ذهاب دون عودة في قطار المعارضة"، ورغم أنه أراد لاحقا أن يفسر كلامه على أن معناه هو السعي إلى السلطة، فإن الحديث عن الوصول إلى الحكم يحتمل أيضا المشاركة في الحكومة كما حدث خلال قرابة عقد ونصف. التعقيب الأكثر إثارة كان دعوة مقري على صفحته على الفايسبوك الرئيس بوتفليقة إلى "المساهمة في إنجاح خلافته"، وهذا في حد ذاته موضوع مهم، فقد اتضح منذ وقت غير قصير أن الرئيس بوتفليقة لا يرغب في الترشح لعهدة رابعة، وقد زاد عامل المرض في تكريس هذا الخيار بشكل واضح، أما مشاركة الرئيس في اختيار خليفته فقد كان الموضوع الأكثر حساسية رغم أنه لم يتم تناوله بشكل صريح سواء من قبل الرئيس أو أي جهة رسمية أو المعارضة. والحاصل أن المطالبة بتفعيل المادة 88 من الدستور ترتبط سياسيا بالسعي إلى إخراج بوتفليقة من عملية اختيار الرئيس القادم، فالانتخابات المبكرة التي سعى إليها قسم من المعارضة تعني ببساطة القطيعة مع عهد بوتفليقة وتوجهاته الكبرى، وقد تم جس نبض المؤسسة العسكرية بهذا الخصوص من خلال دعوة الجيش إلى التدخل وعزل الرئيس، وكان رد الجيش عبر إشارتين، الأولى هي سفر قائد الأركان الفريق قايد صالح إلى باريس رفقة الوزير الأول عبد المالك سلال في 19 جوان الماضي للقاء الرئيس بوتفليقة، والثانية كانت بيانا صريحا من وزارة الدفاع الوطني ينبه السياسيين إلى أن الجيش الوطني الشعبي مؤسسة دستورية ملتزمة بصلاحياتها، وأن بوتفليقة بحكم منصبه هو القائد الأعلى للقوات المسلحة أي أنه المسؤول الأول عن الجيش. هذا التذكير من جانب الجيش هو الذي طوى ملف المادة 88 قبل أن تستبعد نهائيا مع عودة الرئيس بوتفليقة من رحلته العلاجية، ولعل حركة حمس تلقت الإشارة بوضوح، وتكون استنتجت أيضا أن الخيار الأرجح في المرحلة القادمة هو الاستمرارية، حيث سيحظى مرشح توافقي بدعم كبير من قبل جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وهما حزبان لهما وعاء انتخابي مهم فضلا عن قدراتهما التنظيمية، ويضاف إليهما دعم واسع من قبل قسم كبير من المجتمع المدني، وفي مقابل ذلك لا تملك المعارضة أي مرشح قوي، كما أن حظوظها في التوافق تبدو محدودة بسبب خلافات إيديولوجية عميقة لا يمكن تجاوزها بلقاءات موجهة للاستهلاك الإعلامي، كما هو شأن لقاءات الأرسيدي مع الإسلاميين، وكذلك بسبب الصراعات حول الزعامة، وهذه العوامل مجتمعة تصب في مصلحة المرشح الذي يحظى بدعم الأحزاب الكبرى، والذي قد يزكيه الرئيس بوتفليقة أيضا. من هنا يمكن فهم دعوة مقري بوتفليقة للمساهمة في "إنجاح خلافته" على أنه اقتراب أكثر من صيغة التوافق التي قد يتم الإعلان عنها في أي لحظة، فحمس قطعت شوطا مهما في المرحلة الانتقالية، وهي تبدو اليوم وكأنها تتعافى من الضربات القاسية التي تلقتها بفعل حالة الانقسام التي أدت إلى خروج كثير من قادتها السابقين وإطاراتها وتأسيسهم لثلاثة أحزاب جديدة، ويبدو أن مقري بدأ يحقق بعض المكاسب على طريق إعادة لم شمل أبناء حمس، وهذا قد يعطيه المصداقية المطلوبة للعودة مجددا إلى صيغة المشاركة في السلطة، وهو أمر لن يكون مستبعدا خاصة إذا كان مرشح التوافق شخصية قوية وذات مصداقية وتحظى بشعبية كبيرة، ومن هنا فإن الرغبة في تمثيل الإسلاميين في المرحلة القادمة بدأت تظهر من الآن، وقد تكون دافعا لاختصار رحلة المعارضة التي بدأت بالانسحاب من التحالف الرئاسي مطلع سنة 2012 لكن نتائجها لم تكن في مستوى ما توقعته الحركة. لقد قال مقري في وقت سابق إن الانتخابات الرئاسية تهمنا ويهمنا أن نعرف من سيترشح لها، وقد يكون الأهم بالنسبة لحمس أن تعرف من سيكون مرشح التوافق لأن الحكمة تقتضي حزم الامتعة والاستعداد للركوب قبل أن يغادر القطار المحطة وبعدها سيطول الانتظار.