حافظت الجزائر على انسجام موقفها من الأزمة السورية عندما رفضت في اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير التدخل العسكري الأجنبي في سوريا، وتعتبر الجزائر والعراق الدولتان الوحيدتان في الجامعة اللتان تتخذان هذا الموقف في حين يجري تحويل الجامعة إلى مكتب تسجيل للقرارات الأمريكية والغربية. لم تتردد الجزائر في اعتبار قرار الجامعة العربية الذي دعا مجلس الأمن إلى التدخل في سوريا "خرقا للنظام الداخلي لمجلس الجامعة، لاسيما فيما يتعلق بآلية اتخاذ القرارات في حال تعذر تحقيق توافق بين الدول الأعضاء".، وكان بيان لوزارة الخارجية صدر قبل أيام حرص على توضيح "الموقف المبدئي للجزائر بخصوص ضرورة معاقبة منفذ الهجوم الكيماوي"، واستنكر بشدة "استخدام الأسلحة الكيماوية أيا كان مستخدمها"، وقد وقعت الجزائر تحفظها على الفقرة الرابعة من القرار الصادر عن المجلس الوزاري في ختام أشغاله التي تنص على "دعوة الأممالمتحدة والمجتمع الدولي اتخاذ الإجراءات الرادعة واللازمة ضد النظام السوري"، واصفة إياها بالمتسرعة خلال الوقت الراهن، الذي لم تتوضح فيه الكثير من الحقائق حولها، داعية إلى انتظار النتائج النهائية لفريق مفتشي الأممالمتحدة لتحميل المسؤولية الكاملة لمرتكبي هذه الجريمة. هذا الموقف يحمل إشارات واضحة إلى أن الجزائر تعتبر مسألة استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية مجرد ذريعة يجري استعمالها لتبرير التدخل الأجنبي الذي طرح كخيار منذ بداية الأزمة السورية قبل أكثر من سنتين ونصف، ومنذ ذلك الحين حرصت الجزائر على الدعوة إلى حل سياسي وسلمي للأزمة يقوم على الحوار بين كل الأطراف السورية، وقد اتسم الموقف الجزائري بالواقعية حيث حكمته مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية، فمن ناحية هناك رفض صريح لاستمرار العنف وسفك الدماء، حيث أكدت الجزائر صراحة أن هذا الوضع غير مقبول وأنه لا بد من الاحتكام إلى الحوار لحل المشاكل السياسية، وفي مقابل ذلك رفضت أي تدخل أجنبي وردت صراحة خلال الأشهر الأولى للأزمة على الموقف الفرنسي الذي قال بأن الأسد فقد الشرعية بالقول إن الشعب السوري هو الوحيد الذي يستطيع أن يمنح الشرعية أو ينزعها عمن يحكم سوريا، وهو أمر ينسجم تماما مع مبدأ رفض التدخل في شؤون الغير وهو المبدأ الذي قام عليه الموقف الجزائري من الأحداث التي شهدتها تونس ومصر وليبيا، وعلى صعيد آخر هناك إصرار لإعطاء الفرصة كاملة للدور العربي من أجل التوصل إلى حل بدلا عن التدخل الأجنبي الذي بدأ يطرح كبديل من قبل المعارضة وبعض القوى الإقليمية التي تنفذ خطط الدول الكبرى إزاء المنطقة. المواقف الجزائرية من الأزمة السورية، سواء رفضها سحب سفيرها من دمشق وطرد السفير السوري، أو رفض القرارات السابقة التي فرضتها حكومات الخليج مثل سحب المراقبين العرب، أعادت الجزائر إلى الواجهة كقوة عربية رافضة لتحويل الجامعة العربية إلى مجرد غطاء لفرض إرادة الدول الكبرى كما جرى في ليبيا على حساب مصالح شعوب المنطقة، وتعيد هذه المواقف تشكيل التوازنات على مستوى الجامعة العربية، ورغم صعوبة القفز على التوازنات الإقليمية القائمة الآن فإن الجزائر تبدو حريصة على احترام المبادئ التي قامت عليها سياستها الخارجية وخاصة رفض التدخل في الشأن الداخلي للدول الأخرى، ومعارضة التدخل الأجنبي تحت أي مبرر. التوازنات الدولية لعبت لصالح الموقف الجزائري الرصين، فقد أحدث التقارب الروسي الأمريكي والتوافق على ضرورة حل الأزمة سياسيا ومن خلال التفاوض بين كل الأطراف المعنية تحولا في أدوار القوى الإقليمية، وقد أضعف هذا التقارب بشكل واضح دور تركيا والدول الخليجية وعلى رأسها السعودية التي تعتبر القوة الأهم التي تدفع باتجاه التدخل العسكري في سوريا، ورغم الضغط الكبير الذي تمارسه الدول الغربية على دمشق وتوجهها نحو استعمال القوة ضد سوريا لا تزال موسكو مصرة على مطالبة الدول الغربية بأدلة تثبت مسؤولية الجيش السوري عن الهجوم بالسلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية يوم 21 أوت الماضي والذي خلف مئات القتلى، ويمثل الموقف الروسي تحديا حقيقيا لمصداقية الموقف الغربي الذي يبدو مستعجلا لاستعمال القوة العسكرية، والأهم من هذا أنه يؤشر على أن روسيا لن تسمح بتغيير كبير في موازين القوى من خلال التدخل العسكري. الأمريكيون يسلمون أيضا باستحالة حل النزاع عسكريا، ولعل التأخر في اتخاذ القرار، واستهلاك مزيد من الوقت من خلال اللجوء إلى الكونغرس، يهدف بالأساس إلى خفض سقف التوقعات بخصوص آثار الضربات العسكرية التي تنوي الولاياتالمتحدة، بالتحالف مع بعض الدول الغربية، توجيهها إلى سوريا، وأكثر من هذا فإن الحديث عن عملية عسكرية يأتي متزامنا مع ذكر أولوية الحل السياسي، وهو ما يجعل هذه العملية محاولة لإنقاذ الموقف الأخلاقي للقوى الغربية فضلا عن السعي إلى إحداث تغيير في موازين القوى على ساحة المعركة بما يسمح بإطلاق المفاوضات من خلال عقد مؤتمر جنيف 2 دون أن تكون لحكومة دمشق القدرة على فرض شروطها في المؤتمر. هذه الحقائق التي تفرض نفسها تعطي مزيدا من المصداقية للموقف الجزائري، فقد أظهرت الوقائع أن الأمر يتعلق بصراع إقليمي لا علاقة له بممارسات النظام أو علاقته مع شعبه، وأكثر من هذا بدا الموقف الذي اتخذته حكومات الخليج، والذي يقوم على عسكرة الاحتجاجات، واستجلاب التدخل الأجنبي، كان متسرعا ومحفوفا بالمخاطر، ولعل السعودية استشعرت الانتكاسة السياسية التي حلت بموقفها فلجأت إلى تقديم عروض اقتصادية سخية لروسيا في محاولة للتأثير على موقفها وتغيير موازين القوى غير أنها فشلت في ذلك. النقطة الأخرى التي تبدو مهمة وهي أنه أصبح في حكم المؤكد أن النظام في دمشق سيكون شريكا في أي تسوية سياسية للأزمة، وهذا ما يعني أن علاقة الجزائر مع سوريا ستستمر بدون متاعب دبلوماسية في المستقبل، وأن مواقفها الخارجية ستبقى تحظى بالاحترام والتقدير، وهي صفة لازمت السياسة الخارجية الجزائرية منذ الاستقلال، وجعلت من الجزائر قوة جمع على الساحة العربية.