لم يكتفِ شاعرنا الكبير «السماوي» بالكتابة بالشكل العمودي فحسب وإنما يكتب أيضاً شعراً حرا (شعر التفعيلة) لأن فيها أيضاً قواعد المحافظة على الوزن والقافية والجزالة وقوة السبك ومتانة المبنى اللغوي مدعوماً بكل عناصر الشعر التقليدية التي مررنا على ذكرها، والملاحظ للمتابع لشعر التفعيلة عند «يحيى السماوي» أنه يحافظ في معظمها على استخدام القافية الواحدة في القصيدة، وربما هذه لأنه ممارس طويل الباع على الكتابة بالشكل العمودي، حيث يبقى في أسرها حتى في قصيدة التفعيلة التي اعتاد شعراؤها على التنويع والاختلاف في القوافي داخل القصيدة الواحدة، مثلما الاختلاف في عدد تفعيلاتها، وذلك خروجا على قيد القافية الواحدة التي يرون فيها قيدا على تجربة الشاعر واسترساله بسلاسة وحرية، إضافة إلى أن شاعرنا ربما كان في هذه الميزة يريد الحفاظ على الوحدة الموضوعية في القصيدة شكلا ومضمونا وتعبيرا وصورةً وأحاسيس وتجربة وأداءا فنيا، فلنقرأ مثالاً من قصيدته "نبوءات": قد يُنبئُ الرَّعدُ عن المطَرْ.. وتُنبئُ الحقيبةُ المُحْكمَةُ الرِّتاجِ عن سَفرْ ويُنبئُ الحفيفُ عن جَدائِلِ الشجَرْ والعِطرُ عن فصيلةِ الوردةِ.. والوردةُ عن شكلِ الفِراشات.. وتنبئُ الفراشاتُ عن الموسمِ.. والموسمُ عن أجِنّةِ الطيورِ والزَّهَرْ.. ويُنبئُ الجَفافُ عن مَسْغَبَة.. وينبئُ الأثَرْ عن خيْل هولاكو.. أو النبعِ الذي جَفَّ فشدَّتْ رحْلَها الظِباءُ.. قد يُنبئُ شكلُ الموج عن ممالكِ الياقوتِ واللؤلؤِ في القاعِ وعنْ مَتاهَةٍ في حُضْنِ مُسْتَقَرْ.. يتناول شاعرنا الكثير من الموضوعات والأغراض الشعرية بجمالية ورقة عاليتي التأثير، ومن خلال خيال واسع خصب مبني على اطلاع واسع في الشعر والأدب ونظر ثاقب وبصيرة نافذة، ومن خلال لغة غزيرة القاموس جليلة الاستخدام ثاقبة التعبير جميلة جزلة فخمة الإيقاع رقيقة الإيحاء واللفظ، وأوزان تتناسب مع المضامين، وهنا علينا الإشارة إلى أنه ليس هناك تناقض بين الجزالة والرقة، فالجزالة لا تعني الوحشي والمحنط والجامد الخشن من الكلمات والألفاظ التي صارت ضمن تاريخ المتحف اللغوي، ولا تعني الرقةُ السوقيَّ من الألفاظ والكلمات، مما أصبحت في عداد اليومي الساقط من التداول الأدبي الفني. لقد تناول الشاعر «السماوي» الحنين إلى الوطن، معاناة الغربة، مقارعة الاحتلال، الفساد السياسي، الدفاع عن الوطن والأمة بعاطفة صادقة وحس إنساني عراقي يحمل هموم الوطن والشعب والأرض والتاريخ على كاهله ديناً يوفيه بشعره، فالكلمة الصادقة النقية النابعة من مشاعر مخلصة تتفاعل مع ما تؤمن به من خير ونور ومستقبل مشرق لكل إنسانٍ معانٍ من الظلم والقهر والجوع والمرض هي سلاح يوجهه الكاتب والشاعر ضد كل سوء وشر وظلام يحيط بالإنسان، وقصيدته "إنهم يقتلون النخل" مثال حيّ: هم يقتلونَ النخل!! إنَّ النخلَ مُتَّهَمٌ برفض الإنحناءِ وبالتشبُّثِ بالجذور.. وباخضرارِ السَّعْف.. مُتَّهَمٌ بإيواءِ العصافيرِ التي لا تُحْسِنُ استقبالَ: أعداءِ الطفولة.. والطواغيتِ الكبارْ.. والنخلُ مُتَّهمٌ بتأليبِ المياهِ على الطحالب في بحيراتِ الدهاقنةِ الصغارْ للكافرينَ بعشقِ نخلتنا القرارْ ولنا عنادُ المستحيلِ بوجهِ جلجلةِ التخاذلْ ماذا يريدُ المُتخَمونَ من الجياع؟ فلم يعُدْ في الحقل ِما يُغري المناجلَ بالحصادِ النخلُ معنيٌّ برَدِّ الاعتبارِ إلى السَّنابلْ أمْ أنَّ حَرْثاً بالقنابلْ.. سيُقيمُ بُستاناً جديدا ًللثكالى والأراملْ؟ لابدَّ للنخل المُحاصَرِ بالفجيعةِ أنْ يقاتلْ ذودا عن العشبِ المُخَضَّبِ بالدماءِ