بكل المقاييس، المتعارف عليها وغير المتعارف عليها، فإن أزمة مصر، حيث الشارع شارعان والشعب شعبان والدولة دولتان، لا يمكن تصنيفها إلا في خانة وزاوية، أن الشارع “الثوري”، خرج من سلطة الدولة، ليصبح كما في ليبيا وفي تونس وفي مناطق الربيع أو “النجيع” العربي، هو الدولة وهو القانون وهو الدستور، وعدا ذلك فإنه لا دولة إلا ما تمخضت عنه “الفوضى الخلاقة” التي أنتجتها مزارع ومختبرات الربيع “الغربي” لتلقح بها طموحا عربيا كامنا في “ربيع عربي” أقصى ما أورق من ورود وأزهار مزارع من التيه، حيث لكل شارع ولكل ثائر دولته الخاصة به وبأفكاره وبزمرته التي تنفخ ميدانه أو شعابه الثورية.. هل هي أزمة مصر وحدها، أم أزمة “ربيع عربي”، نفخوا فيه ما فيه وما ليس فيه من إرادات شعوب، ليطفو على سطحه بعد حين وقع الكذبة البيضاء التي ابتلعتها آمال شعوب مقهورة من سلطة الفرد الواحد أوقعها حظها و”ربيعها” العاثر بين أنياب مارد متحرر يسمى دولة الشارع، حيث لا قانون ساري المفعول، سوى قانون الزمر المتكالبة على فرض الأمر و”الشارع” الواقع، وخاصة أمام التغيب المبيت لمؤسسات الدولة كواجهة حكم، يمكن أن يحتكم إليها المختلفون والمتخاصمون، فمن يدفع مصر إلى المستنقع، ومن دفع الربيع العربي، بمسمياته وجغرافياته المتعددة إلى الانتحار على أسوار القاهرة، حيث بين مسيرة مليونية مع الرئيس ومليونية ضد دستوره وضد خلافته، شيع العالم كذبة “الربيع العربي”، الذي استطاع بين ليلة وضحاها حبس مبارك مصر وقتل قذافي ليبيا ونفي زين العابدين بن علي.. هل ما يجري في مصر مجرد خلل بسيط وخلاف في الرأي بين تشكيلات سياسية كل منها يدعي ملكيته لمصر وأحقيته بها دونا عن غيره، أم أن في الأمر علّة عميقة قفز عليها المتحالفون إبان الثورة لترمي مرحلة ما بعد ميدان التحرير وما بعد نظام مبارك، بكل متناقضات ووقائع “الجمل” إلى شوارع وميادين تحرير، لم يعد لها من رايات إلا راية “صفين”، حيث صراع الإخوة الأعداء أوصل الربيع العربي، قبل مصر إلى نفق مظلم ومفتوح على محطات مجهولة، كل واحدة فيها تخفي مأزقا أكبر ومتاهة أعمق وأظلم.. الحكاية في مصر كما في الربيع العربي، أبعد من أن تكون مؤقتة وتتعلق بنقطة خلاف حول مادة دستورية مختلف حول تفسيرها، فحتى ولو مرت العاصفة القضائية والدستورية الآن بسلام فإن القادم أكبر وأعمق. وكما مصر فإن تونس تعيش المخاض، أما ليبيا فالمأزق ولد فيها وجنينها والأصح “جنونها” سبق كل نتائج وكل آمال مفترضة بعد أن انتهى الحال بالربيع العربي إلى دولة الشوارع التي ورثت شوارع الدولة، لتصبح السلطة الفعلية هي السلطة الأكثر قدرة على إحداث النفير بين الشعاب الشعبية، فمن يحرك الملايين ويدفعها إلى الاعتصام هو الحاكم، أما المؤسسات الجمهورية ومبادئ وأحلام دولة القانون فإنها مجرد أدوات خاضعة لإرادة “لوبيات” سياسية وحزبية، فهمت اللعبة وعرفت من أين تؤكل الكتف، في حالات الجنون وحالات “الفوضى الخلاقة”.. في فائدة من يصب التجدد “الدوري” لأزمات الشارع و”الدولة، وإلى متى تبقى مصر وكذا ليبيا وتونس وغيرها من “مساحات” الربيع العربي، تقتات من الفوضى ومن الاختلال العام الذي أكل أخضر الثورة ويابسها؟ وإلى أين ستصل الثورات العربية بشعوب حررت نفسها من حكم الطغاة فاستعبدها عبث الشارع وعبث دويلات “الشارع” المتفشية والتي أوقفت سيرورة الحياة بمبرر “ديمقراطية”، حتى الآن لم يثبت أنها أطعمت جائعا أو داوت مريضا أو حلت أزمة ما؟ ببساطة، الأمور انفلتت وانزلق مسارها عن طبيعة وطبائع الثورة، والنجاح الذي قطفه الربيع العربي بإزاحة أعتى طغاة “العرب” من حكام جثموا على نفوس المقهورين والبسطاء لسنوات من القهر والجلد، ذاك النجاح الذي قطف، خطفه الواقع من بين صانعيه وجنوده، فمن صلّوا للربيع العربي نسوا في غمرة سعادتهم بالملاحم الثورية، موضوع، ماذا ستفعلون بالبلاط وبالعروش الخاوية، وكيف يمكن ملء الفراغ الذي خلفه الطغاة السابقون، وهل سيصبر عليكم الشارع كما صبر على السابقين ممن كان شارعهم؟ ولأن المهمة لم تكن بسهولة “الثورة”، وما قطفته من رؤوس حاكمة، فإن “الشارع” الذي صنع الثورات خرج من سيطرة الجميع، ليصبح هو الخصم وهو الدولة الموازية التي تمتلك كل مؤهلات الوجود والتواجد.. أكثر المغتبطين بما يجري الآن في ساحة مصر اثنان، ثالثهم قذافي قتيل، فالأول حسني مبارك قالها لميدان التحرير، في عزة غليانه، حين خير المصريين بين أن يصبروا عليه لستة أشهر، أو يبشروا بالفوضى التي لن تخرج منها أم الدنيا. أما الثاني فنزيل مكة، زين العابدين بن علي، حيث “الحاج” بن علي الآن يتابع عن كثب إلى أين وصلت تونس ما بعد “حاكمة قرطاج”.. فلا شيء تغير، الجوع نفسه، الأزمات نفسها والمعاناة القديمة أصبحت أكثر من معاناة واحدة، حيث الأمر لم يعد يتعلق بدولة البوليس، ولكنها دويلات الشارع ومعهما دولة “البوليس”.. فأي وضع هذا وأي ربيع عربي ذاك الذي ألغى الحد الأدنى من قبضة مؤسسات الدولة، ليشرع الباب أمام دويلات “ميادين التحرير”.. مبررات أن لكل ثورة مخاضها، مبررات مردودة على من يراهنون على عامل الوقت للعودة إلى الحياة الطبيعية، والسبب أن مهلة العامين من زمن ما بعد الثورة، لم تنتج إلا تأزما يليه أزمات أخرى والقاسم المشترك “تسيس” الشارع، بما يخدم غاية الانسداد الدائم و”الفوضى” المستدامة.. فأين الربيع وأين مصر وهل يمكن أن يرتجى “تغيير” للوضع من وضع مشحون لا دولة فيه.. إلا دولة الشارع ومن يسير ويحكم ويستنفر الشارع؟