عندما نربط خطاب أوباما في براغ في أفريل 2009 والداعي إلى جعل العالم خال من الأسلحة النووية مع طموحاته في قمة واشنطن للأمن النووي، يتبادر إلينا وكأننا أمام غورباتشوف آخر الذي رفع الشعار ذاته في سنة ,1986 الذي انتهى به الأمر بتوقيع شهادة وفاة الاتحاد السوفياتي بعد انهيار وتفكك هذه الإمبراطورية التي عجزت عن تحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للشعب السوفياتي في الأرض وراحت تبحث عن الأمن القومي في الفضاء والمزيد من تخزين أسلحة الدمار الشامل، حيث اتضح للعالم في نفس السنة 1986 أن السلطة المركزية في الكرملين لم يكن لديها حتى القدرة على تأمين مفاعلاتها النووية كما حدث في كارثة تشرنوبيل في أوكرانيا. وربما ما يجمع بين غورباتشوف وأوباما هي الظروف البيئية الداخلية لكل منهما، فأوباما ورث إمبراطورية تكاد تنهار ماليا واقتصاديا بسبب الأزمة العقارية وتداعياتها السلبية، في الوقت الذي يتورط فيه الجيش الأمريكي عسكريا في حربين لا نهاية لهما في أفغانستان والعراق مع تراجع المكانة والصورة الأمريكية في العالم الإسلامي بسبب السياسة الأمريكية التي تقدم كل الحماية الدبلوماسية والأمنية لدولة إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني، وهو ما يجعل ربط مسألة البحث عن عالم خال من الأسلحة النووية بمحاولة تجاوز هذه الظروف الكارثية التي تعيشها واشنطن على كل المستويات، وهو إدراك أمريكي يتجاوز أوباما ذاته، لأنه من السذاجة أن نعتقد أن الرئيس الأمريكي اتخذ القرار بمعزل عن المؤسسة الأمريكية الواسعة التي تصنع قراراتها مراكز التفكير الثقيلة في واشنطن، وهو ما تشير إليه وسائل الإعلام الأمريكية من أن فكرة الدعوة لعالم خال من الأسلحة النووية انطلقت إعلاميا مع شخصيات سياسية كان لها وزنها في الإدارات الأمريكية السابقة بجناحيها الجمهوري والديمقراطي، حيث شارك كل من هنري كيسنجر وجورج شولتز اللذان توليا منصب وزير الخارجية في إدارة جمهورية ومعهما ويليام بيري الذي تولى منصب وزير الدفاع في إدارة ديمقراطية والسيناتور سام نان، في كتابة مقال نشر في نهاية سنة 2007 بمجلة ولت ستريت ذائعة الصيت بعنوان، من أجل عالم خال من الأسلحة النووية، ورافق هذه الحملة الدعائية لأكبر الفاعلين السياسيين إنتاج فيلم دعائي بعنوان نقطة التحول النووي يحذر من المخاطر النووية بشهادة هذه الشخصيات الأربع، وهو ما يجعلنا نؤكد من أن أوباما في النهاية يترجم هذا الإدراك الأمريكي لإنجاز مجموعة من الأهداف المتكاملة، أولها أن تقلص واشنطن من التكاليف الباهظة للمخزون النووي. حيث تقدر تأمينها وصيانتها السنوية 54 مليار دولار وهي قيمة مالية لا تطيقها الخزينة الأمريكية في عز الأزمة المالية، وثانيا، من غير المنطقي أن تبقى واشنطن تدير إستراتيجيتها العسكرية بمنطق الحرب الباردة التي أدت إلى السباق نحو التسلح طيلة نصف قرن لتحقيق التفوق النوعي على خصمها السوفيات، وهو ما جعل أوباما يؤكد في قمة واشنطن للأمن النووي على ما سماه بالسخرية القاسية للتاريخ، حيث اختفت مخاطر مواجهة نووية بين الدول في الوقت الذي تصاعدت مخاطر شن هجوم نووي من شبكات إرهابية مثل القاعدة، وهي المرحلة التي ينتشر فيها الإرهاب النووي الذي يهدد السلام العالمي، بحيث يتم التركيز على النموذج الباكستاني وسيناريوهات الاستيلاء على المنشآت والمعدات النووية من قبل طالبان وتنظيم القاعدة أو من خلال تحالف بعض القوى العسكرية الباكستانية مع طالبان التي نشأت في أحضان الاستخبارات الباكستانية. والمفارقة هنا أن واشنطن عندما تحرص على تسويق الخطر الباكستاني تقوم بدعم التحالف الإستراتيجي والنووي مع الهند التي أبرمت معها اتفاقية نووية تزودها بالمعدات والتكنولوجية النووية، وعين واشنطن على السوق الهندية التي خصصت 150 مليار دولار لتطوير قدراتها النووية ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري، والدخول في منافسة مع روسيا التي وقعت بدورها اتفاقا ضخما لتزويد نيودلهي بالمعدات والتكنولوجية النووية، وهو ما يجعل واشنطن تدفع باكستان لتطوير قدراتها النووية لتحقيق التوازن الاستراتيجي النووي مع الهند التي تتنازع معها في كشمير وفي أفغانستان، فلماذا يتم السكوت على الخطر الهندي وسيناريوهات مماثلة قد يستخدم الهندوس المتطرفين هذه الترسانة النووية الهندية لزعزعة الاستقرار في القارة الأسيوية. وبنفس المنطق لماذا يتم التركيز على التهديد الإرهابي النووي وفق سيناريو دعم نظام طهران لحزب الله أو حماس التي تصنفهما الدوائر الغربية ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية، بينما يتم الصمت المطلق على إسرائيل التي بنت دولتها بالإرهاب وتواصل تغيير البنية الديمغرافية والخريطة الجغرافية في فلسطين من أجل دولة يهودية خالصة، وهي تملك ما يزيد عن 200 رأس نووي، ورغم ذلك اعتبرها الرئيس الفرنسي ساركوزي في قمة واشنطن للأمن النووي بالدولة الديمقراطية المهددة من قبل البرابرة الإيرانيين الذين يجب على المجتمع الدولي أن يسلط عليهم أقصى العقوبات حتى وإن استدعى الأمر خارج مجلس الأمن في حالة غياب الإجماع بين أصحاب الفيتو. لو كان العالم الإسلامي يملك القوة والقدرة على تحريك المجتمع الدولي لاستطاع أن يطرح الأمن النووي بصيغة التهديد الحقيقي وليس بصيغة التهديد الافتراضي الذي تراه واشنطن، لأن القنبلة النووية بحجم حبة التفاحة التي تحدث عنها أوباما أو تسريب اليورانيوم المخصب أو البلوتونيوم إلى الجماعات الإرهابية يحتاج إلى مواقع إستراتيجية لصناعة القنبلة النووية مع درجة حرارة ثابتة وإلى خبراء يفوق عددهم 300 خبير متواجدين باستمرار في المخابر، وفي هذه الحالة فإنه من غير المعقول أن تصنع القنبلة النووية في جبال طورا بورا، بينما يمكن لشخص متهور مثل ليبرمان في إسرائيل أو رجل دين يهودي متطرف يؤمن بمعركة هرمجدون أن يستخدم القوة النووية ضد العالم الإسلامي وهذا هو التهديد النووي الحقيقي. ولنعيد الاستئناس بالتاريخ الذي يقول لنا إن أول مرة وآخر مرة تم فيها استخدام النووي كان من قبل واشنطن ضد هيروشيما ونغازاكي، فلماذا نبعد سيناريو الخطر القادم في حالة صدام بين الدول المتنافسة على إعادة ترتيب السلطة في النظام الدولي الجديد، والتهديد الأمريكي لروسيا بوضع الدرع الصاروخي في الأراضي البولونية والتشيكية هو تهديد نووي حقيقي يبقى قائما رغم التوقيع على اتفاقية ستارت الجديدة بين البلدين والقاضية بخفض الرؤوس النووية وليس إلغائها، خصوصا وأن الرؤى لا تزال متناقضة بين صانعي القرار في البلدين، حيث تصر روسيا على ربط تنفيذ الاتفاقية بسحب واشنطن لمشروع الدرع الصاروخي الذي يهدد الأمن القومي الروسي ويمنعها من التمدد في أوراسيا، في الوقت الذي تصر فيه إدارة أوباما على عزل المشروع عن اتفاقية ستارت الجديدة، ويبقى السيناريو الأمريكي الياباني مطروحا في حالة استخدام روسيا القوة لإبعاد واشنطن عن أوراسيا من أفغانستان وداغستان إلى جورجيا وأوكرانيا وبولونيا وكلها ساحات تتناقض فيها الإرادات والمصالح الأمريكية الروسية. فأي التهديدات حقيقة هل هي تلك التهديدات النووية القادمة من إسرائيل والهند وروسياوواشنطن اللتان يملكان أكثر من 90 بالمائة من الاحتياطي العالمي من الترسانة النووية أم جماعات قبلية تختفي في جبال طروا بورا والساحل الإفريقي، أم أننا نبقى نعيد إنتاج الخطاب الغربي الذي يميز بين الخطر الافتراضي لما تسميه وسائل الإعلام بالقنبلة النووية الإسلامية، في الوقت الذي تصمت عن القنبلة النووية اليهودية والهندوسية والبروتستانتية والأرثدوكسية