نساء الحي العاصمي العتيق يتمسكن ب"الحايك" في عصر الموضة لا يمكن الحديث عن صحة جسد، دون الحديث عن صحة قلبه، ومن غير المنطقي الحديث عن الجزائر بغير التغزّل بقصبتها في العاصمة التي لا يزال ياسمينها يفوح ليصل عطره تمنراست.. ليست مبالغة وإنما هي الحقيقة التي يكتشفها الجزائري وحتى الأجنبي في أولى خطواته بالقصبة.. كذب من قال إن "ناس القصبة" تغيروا.. ولو صدق! لا تزال في القصبة العتيقة، تلك الحميمية التي يفتقدها العالم في عصر العولمة والتطور، والرسائل القصيرة، ولا يزال "الواجب"، له كلمته عند ناس "دزاير"، لن يتعود أهل هذه المنطقة على نمط غير الذي تربوا عليه وكبروا في كنفه، السؤال على الجارة، مشاركة العريس فرحه بالقلب والقالب، مادة ومعنويات، الوقوف إلى جانب المريض وأهله، أن تفرح لجارك الأربعين وتحزن لحزنه، تفاصيل افتقدتها المجتمعات العربية والمجتمع الجزائري ولكنها فضلت أن تتأصل في مجتمع أصيل لا يستطيع العيش إلا "بالطبع" مثلما يقال في الدارجة. البنيان وأهله صامدون في وجه موجة "العولمة" يعلم "ناس القصبة"، أبناءهم السباحة على قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي سن مبكرة فلا تكاد تجد واحدا من أبناء الحي إلا ويجيد السباحة فيسمون أنفسهم "ولاد البحر"، وكما تعلّموا ركوب التيار، رضع أهل المنطقة أيضا السباحة بعكس الموج، الذي يتنافى مع مبادئهم ومعتقداتهم الخاصة جدا، وهذا ما حدث مع "العولمة"، فلا يعترف "وليد دزاير" الحقيقي، كما يستعمل في المنطقة، بالرسائل القصيرة ليعايد جاره أو صديقته، لا يستخدم ابن المنطقة "وسائل الاتصال الاجتماعي"، لمعايدة جاره، حتى الشباب منهم، فيقول محمد ايمسلايد، وهو طالب في "جامعة بن عكنون"، إنه لطالما استغرب أصدقاءه وزملاءه في الدراسة من إصراره على معايدتهم بالطرق التقليدية. يحرص هذا الشاب على غرار أهل حيه، على لقاء أصدقائه بالمسجد ومعايدتهم بعد صلاة العيد، فحسبه "تعلمنا أنه من العيب والمعيب أن لا نعطي قيمة للآخر، لذلك نجد أنه من غير اللائق أن نحتفل بأجمل وأهم أعيادنا بالأساليب الباردة الدخيلة على مجتمعنا". ويواصل المتحدث "أنا من هذا الجيل، والأكيد أنني أستخدم وسائل الاتصال الحديثة ومدرك لأهميتها، ولكني في المقابل مدرك لأهمية وضرورة الحفاظ على ما تبقى من أصالتنا التي لا يجب أن نسمح للآخر بإلغائها، فقد تكون بعض عاداتنا الحميدة الشيء الوحيد الذي يجعلنا نتمسك ببلادنا رغم الصعوبات التي نعيشها". لا "قصبة" ولا "ديكور" دون صنعة النحاس تزدان "القصبة" بعمرانها الخاص جدا، وتشبع نرجسيتها حينما تحكي لك جدرانها على تاريخها المتجذّر العائد لأزيد من ألفي سنة، والذي مرت عليه الحضارات، وتداولت عليه الأجيال.. "القصبة" هذا الحي العريق المتجدد يوميا بأهله أصحاب الابتسامة المميزة والروح المتميزة، لا تزال للضحكة طعمها في القصبة، ولا يزال للحضن دفئه أيضا، ولا تزال الزغرودة العاصمية الأصيلة تعزف على الوتر ذاته. لا يمكن الحديث عن "القصبة" بغير الحديث عن النحاس، ورواده وأصحاب هذه الصنعة المتمسكون بها رغم الحراك والتغيرات التي يشهدها العالم في مجال الديكور، فلا تزال العروس العاصمية تأخذ في "جهازها" قطه النحاس للتزين، ولا يخلو بيتا في الحي العتيق من الأواني النحاسية ذات الشكل القديم، الذي يأبى أصحاب الصنعة تغييره أو تجديده فهم يجدون شكله الأولي هو الأجمل والأبهى، على حد تعبير عمي السعيد النّحاس، الذي امتهن هذه الحرفة منذ أزيد من خمسين سنة والتي ورثها عن والده وسيورثها لابنه، هو ليس ضد فكرة أن يواصل أبناءه التعليم والوصول إلى مناصب عليا، وتحقيق أحلامهم في مجالاتهم ولكنه لا يسمح أبدا لفكرة أن يكون واحدا من أبنائه لا يعرف مسك المطرقة وزخرفة الإناء النحاسي على الطريقة العتيقة فيشير "إننا هنا خلقنا لنورث أبنائنا العادات والتقاليد قبل أن نورثهم المال، هذا الأخير يأتي مع الزمن ويذهب، ولكن الكنز الحقيقي هو الصنعة والتراث، اللذين يعتبران عامل أساسي في معيشتها.. هنا". "الحايك".. ستر المرأة وزينتها وسر أنوثتها قد تشتاق في مختلف أنحاء الوطن لرؤية "الحايك" أو اللباس التقليدي، ولكن لإشباع اشتياقك يمكنك اتخاذ "القصبة" كوجهة لتطفئ نيران شوقك للأصالة وللمرأة الجزائرية بحلتها القديمة، الأنيقة ب"حايك المرمة".. لا تخلو أزقة "القصبة" الضيقة من النساء اللواتي يرتدين "الحايك"، هذا اللباس الذي تزينت به نساء الأندلس سابقا والذي انتقل إلى المغرب العربي مع قدوم اللاجئين الأندلسيين خلال مطلع القرن السادس عشر، وهو منتشر بمعظم أرجاء الجزائر. ويختلف لون "الحايك" في "القصبة" عن "الحايك" في الشرق الجزائري، حيث تروي الرواية الشعبية أن نساء الشرق الجزائري كن يلبسن "الحايك" الأبيض ثم لما قتل صالح باي، لبست النساء الملاية السوداء "حايك أسود" حزنا عليه. وخلال الوجود الفرنسي بالجزائر وبعيد استرجاع الاستقلال؛ بقي "الحايك" محافظا على وجوده، لكن بدأ في الاختفاء مع سبعينيات القرن العشرين بعد الانفتاح الذي شهدته الجزائر، إلا من "القصبة العتيقة". وحسب ما روته لنا خالتي خداوج؛ فإن المرأة المعاصرة ورغم تخليها عن الحايك كلباس يومي إلا أنه من غير الممكن أن تخرج عروسا من بيت أهلها بغيره، فحاولت النساء العاصميات، بكل الطرق الحفاظ على هذا الموروث الثقافي وتثبيته في عقل بناتهن، فحتى "بنت18 " لا تتخيل نفسها عروسا بدون "الحايك"، وهذا ما قالته لنا ياسمين الطالبة بكلية علوم الإعلام والاتصال سنة أولى، والتي أكدت أنها من غير المعقول أن تتخيل نفسها في حفل زفافها بدون "سروال شلقة أو حايك ومحرمة الفتول". وترى ياسمين أن الموضة تأتي وتذهب وتتغير كل يوم وأنه يوجد في المجتمعات ثوابت لا يجب أن يتخلى عنها مهما تغيرت الأوضاع. ويعتبر "حايك مرمة" من أجود أنواع "الحايك"، وكان ارتداؤه يقتصر على الطبقة الميسورة التي تتباهى نساؤها بارتدائه لكونه يشكل نوعا من المدنية لأن نساء العاصمة اشتهرن به وينسج من الحرير الخالص أو الممزوج بالكتان أو الصوف والظاهر أنه لم يكن ينسج بالجزائر وإنما كان يستورد في أغلب الظن من تونس. تراث أصيل يقاوم صرعات الموضة ومن أشهر أنواع "الحايك" أيضا سجل التاريخ "الحايك العشعاشي" الذي كان ينسج بتلمسان وكانت تلبسه العامة من النساء ويتميز عن "المرمة" في أن الأول خالص البياض فيما تشوب الثاني تطاريز صفراء. ويعد "الحايك السفساري" من أجمل الأنواع الذي سجلها هذا التراث المادي، فقد كان هذا النوع من "الحايك" محصورا على نساء الشرق الجزائري، وهو لباس نساء الأندلس، حيث يصنع من الحرير أو القطن ويوجد بعدة ألوان كالأسود والأبيض والأصفر، في الأصل كان يغلب عليه السواد. كما لا يزال بالقصبة العتيقة العجار، صامد في وجه الموضة "المستوردة"، قطعة القماش هذه التي تتزين بها العاصمية لتغطي بها وجهها، أو نصفه الأسفل ويلبس مع "الحايك" فلا يظهر من وجهها إلا العينين،كان قديما يلف على الرأس فيغطيه ثم يدار ليستر بعضا من الوجه ، ثم تطور ليصبح قطعة من قماش يربط طرفيها العلويين بخيط عادي أو مطاطي ويحزم هذا الخيط أو يلف خلف الرأس ليثبت "العجار" على الوجه. ويكون "العجار" بنفس لون "الحايك" وفي غالب الأحيان مطروز لإظهاره بشكل أجمل. لن تصمد "القصبة" أكثر مما فعلت.. فهل من مجيب! يناضل أبناء "القصبة" من أجل الحفاظ على كنزهم الذي أورثهم إياه التاريخ الجزائري العتيق، والقصبة هي مدينة الجزائر في العهد العثماني التركي وهي مقر السلطان وتم بناؤها على الجبل المطل على البحر الأبيض المتوسط لتكون قاعدة عسكرية مهمتها الدفاع عن القطر الجزائري كله. وهي مبنية على طراز تركي عثماني تشبه المتاهة في تداخل أزقتها، بحيث لا يستطيع الغريب الخروج منها لوحده لوجود أزقة كثيرة مقطوعة تنتهي بأبواب المنازل والقصبة تحوي عدة أزقة أهمها "زنيقة العرايس" و"زنيقة مراد نزيم بك" وفيها عدة عيون مشهورة ك"العين المالحة" في "باب جديد" و"بئر جباح" في قلب "القصبة" و"زوج عيون" في أسفلها. وتم هدم جزء منها بعد الاحتلال الفرنسي عام 1830، بالإضافة إلى احتوائها عدة قصور أهمها "قصر الداي" أو كما يعرف ب"دار السلطان" و"قصر الرياس" و"قصر خداوج العمية "و"دار عزيزة". كما تحتوي القصبة على مساجد عديدة هي الجامع الكبير والجامع الجديد وجامع كتشاوة وجامع علي بتشين وجامع السفير وجامع السلطان وجامع سيدي رمضان، بالإضافة إلى مساجد صغيرة كمسجد سيدي محمد الشريف وسيدي عبد الله وسيدي بن علي، وضريحها الشهير سيدي عبد الرحمن الثعالبي الذي لا زال يمثل مزارا كبيرا في حي "القصبة"، بالإضافة إلى جامع كبير تم هدمه في بداية الاستعمار الفرنسي كان يتوسط ما يعرف اليوم ب"ساحة الشهداء". وكانت "القصبة" عبارة عن حصن يغلق ليلا وله عدة أبواب في جهاتها الأربع أهمها باب الوادي من الغرب وباب الجديد في الجهة العليا وباب الجزيرة من جهة البحر وباب عزون من جهة الشرق. والخصوصيات الأكثر تمييزا للقصبة والتي تمنحها كل الروعة هي الأرضية التي بنيت عليها، تتكئ "القصبة" على هضبة تنكسر من على ارتفاع 118 مترا أزقتها متشعبة وهندسة بيوتها خارجيا وداخليا يعطيها سحرا يرجعك لزمان زاهر قد مضى. كل هذا الموروث والتاريخ مهدد بالانهيار في أي لحظة، ويناشد سكان "القصبة" الذين التقتهم "البلاد" في جولتها؛ السلطات المعنية التدخل فورا في سبيل حماية أهم معالم الجزائر التي حافظ عليها أهلها على مر الأجيال والسنين ولكن وصل حال جدران "القصبة" إلى مالا يمكن أن يفعل المواطن البسيط به شيء، فيقول عمي محمد إن الوضع بات أكبر من أن يحتوى. كما دعا وزارة الثقافة بالتدخل فورا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا المتحف المفتوح على الهواء الطلق، وحذر المتحدث في هذا السياق من الترميمات الخاطئة التي يتم اعتمادها في سبيل جعل "القصبة" تصمد أكثر في وجه الزمن.