ما الفائدة من تلك الترسانة القانونية والإجرائية لمحاربة الفساد التي اتخذتها السلطات الجزائرية بعد خراب مالطا؟ كان هذا هو السؤال الذي وجه لي للتعليق على القرارات التي اتخذتها الحكومة الجزائرية لمحاربة الفساد في الجزائر من قبل قناة الجزيرة في حصة الحصاد المغاربي، والسؤال في حد ذاته يحتاج إلى وقفة تحليلية مكتوبة لا تتيحها دقيقتين من التحليل الشفهي، وكان هذا هو انطباعي دائما أن المكتوب يتطلب التأني في التفكير وفي اختيار المفردات والمصطلحات اللائقة· أما الشفهي الذي يعتمد على السرعة في الإجابة وضيق الوقت التي تفرضها التقنيات الإعلامية لتمرير المزيد من الأخبار، دائما ما تجعل المحللين غير راضين عن الأداء والتفسير حتى تشعر وكأن ما يهم الإعلامي في القناة الفضائية أنه يبحث عن تعدد الوجوه والصور لإثراء المواضيع، لكن دون أن يعطي الجدية لما سيقوله المحلل، فبمجرد ما يطرح السؤال يضع الإعلامي أمامه الكرونوماتر ليحبس أنفاسك وصلت أو لم تصل الفكرة، حتى وإن تظاهر الإعلامي بمقولته المطاطية أن فكرتك قد وصلت للمشاهدين، كان هذا هو تقديري في كل مرة أشارك بالتحليلات في الفضائيات العربية والأجنبية· وفي كثير من الأحيان يجد المحلل نفسه في إطار ضيق يحاول الإعلامي توجيهه نحو إجابة محددة تخدم توجهات وقناعات المسؤولين عن القناة الإعلامية، وهذا مجهود آخر يجد المحلل نفسه دائما في لعبة تفكيك السؤال قبل الإجابة عليه، وقد نعود هنا للجواب على الفساد في الجزائر وخراب مالطا، إذا كان التحليل السريع بإيقاع الفضائيات قد نقول إن مالطا لم تخرب بعد، لأن الموارد المالية في الجزائر المكتنزة من عوائد المحروقات تعطي المؤشرات الإيجابية بأن فرسان مالطا لم يصلوا بعد لتخريب الجزائر رغم الفساد الذي مارسوه في العشرية الأخيرة، واعتمادنا هنا في تجنب الحديث عن الخراب النهائي على مؤشرات الاقتصاد الكلي من احتياطي الصرف الذي يصل إلى 150 مليار دولار والديون الخارجية التي تراجعت إلى أقل من 4 ملايير دولار مع الحصة المالية الضخمة التي خصصت للبرنامج التنموي للفترة الحماسية القادمة ما بين 2010 وسنة 2014 والتي تصل إلى 286 مليار دولار· فمالطا بهذه الرؤية لم تخرب لكن استمرار فرسان مالطا في الفساد بدون رقيب و لا حسيب سيجعل المعبد يسقط على الجميع، كما سقطت إمبراطورية عبد المؤمن خليفة التي وصفها الوزير الأول أحمد أويحي بعد الاختلاسات التي طالت المال العام من قبل هذه الإمبراطورية الخفية، باحتيال القرن بعدما كبدت الخزينة الجزائرية خسائر بأكثر من مليارين دولار أو يزيد، وأذكر أن في تلك الفترة كلفت مجموعة من الطلبة الجامعيين في قسم الإعلام بمتابعة محاكمة المتورطين في قضية الخليفة من خلال أربع جرائد وطنية، وفق جدول منهجي يرتب فيه المتهمون، وظيفتهم، الوزارة التي يتبعونها والمبلغ المالي المتورطين فيه، كانت النتائج العامة للمتابعة الإعلامية اليومية أن مال الشعب هو الذي أهدر بحيل وتواطؤ الجميع من صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي إلى دواوين ترقية السكن، لكن عندما نصل إلى الحكم النهائي لم نجد المتورطين الفعليين الذين أمروا بإيداع أموال العمال أو المال العام في بنك الخليفة، وكم كانت المصيبة عظيمة عندما كنا نقرأ ونسمع أن المدير السابق عبد المؤمن خليفة كان يسلم المال الذي اكتنزه من حق وعرق العمال والمتقاعدين ومن عائدات المحروقات لكل من هب ودب بمكالمة هاتفية أو ورقة صغيرة يمضي عليها وكأنه يسير مزرعة للدجاج· القضية في حد ذاتها تحتاج إلى وقفات لدراسة ومعالجة طرق الاحتيال على المال العام، وربما الترسانة القانونية للحكومة الجزائرية التي اتخذت في مجلس الوزراء سواء تعلق الأمر بتعديل وتتميم قانون النقد والقرض الذي يعطي صلاحيات للبنك المركزي مع إشراك الدولة في الهيئات المالية والبنوك الخاصة بأسهم نوعية، وكذلك الأمر بالنسبة للقانون المتعلق بقمع الجرائم المنظمة للصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج تعد آليات رقابية لتجنب تكرار إمبراطوريات وهمية تتشكل أو قيد التشكل لسلب المال العام· إجمالا، لا يختلف اثنان على أن الجهات المسؤولة عن الفساد والتسيب تبدأ من الموظفين الحكوميين والسياسيين الذي يتولون إدارة المال العام وصرفه· وفي هذا الإطار رغم القوانين التي تنظم الرقابة القبلية على المسؤولين فيما يتعلق بالتصريح بممتلكاتهم قبل توليهم المسؤولية، فإن الرقابة البعدية لا تشكل اهتماما بالغا بالنسبة لما بعد فترة الانتهاء من الوظيفة، وقد ينطبق المثل العام على الكثير من المسؤولين بدول العالم الثالث وخصوصا الدول الريعية منها، التي يدخل فيها السياسي موظف وبعد تسريحه يصبح من رجال الأعمال، جاعلا من الوظيفة العامة مصدرا للثراء وهو ما يفسر في الجزائر تفشي ظاهرة ''الشكارة'' باعتراف الأحزاب الجزائرية من أجل الترشح للمناصب السياسية النوعية من المجالس الشعبية البلدية إلى المجالس الشعبية الوطنية، وربما التعليمة الرئاسية المؤرخة في 13 ديسمبر 2009 التي وضعت مجموعة من التوصيات من أجل التسيير الراشد للاعتمادات المالية تؤكد في أحد بنودها على ضرورة تحيين الإجراء القانوني للتصريح بالممتلكات، على أن يشمل هذا التصريح الزوجة والأولاد مع معالجة الثراء السريع للموظف والتحكم في المعاملات العقارية، وهي مسؤولية تنتظر الديوان المركزي لقمع الفساد لإثبات قدرته على الرقابة باسم المبدأ العام من أين لك هذا؟ خصوصا وأن القانون أعطى للشرطة القضائية كامل الصلاحيات من تمديد الاختصاص إلى كامل التراب الوطني مع المهام العملياتية وليست الاستشارية، وهي مهمة قد تردع أصحاب ''الشكارة'' والمنتفعين بالوظائف العامة الذين إن تركوا على حالهم قد يصلوا بها إلى حالة خراب مالطا·