لاشيء في الواقع العربي المعاصر يغري بإجراء مقارنات إيجابية.. فمساحة الأشياء الجميلة والأوضاع المريحة.. وحجم التفوق في الأفكار.. ومقدار الشعور بالأمن.. ومدى الرخاء المادي.. وحدود الديمقراطية.. تبدو في مجملها عناوين سطحية.. بغير وزن أو معنى.. إنك لا تكاد تحس منها شيئا.. لأنها أشبه بهياكل عظمية جافة.. لا أثر فيها للحياة. وإذا افترضنا وجود أي لون من هذه الأشياء..وبأي مقدار.. فلن يكون أكثر من زخارف لفظية.. وفقاعات تنفجر في الهواء بمجرد أن تضع أصبعك عليها. صحيح أننا نريد رؤية وطن عربي جميل.. وحر.. وشفاف كنبع ماء فرات.. لا مجرد أسوار كثيفة من الظلم والنكد والرداءة.. لكن من أين لنا ذلك. ٌٌٌ أما حين يتعلق الأمر بالأشياء السيئة والرديئة.. وتلك التي يخجل المرء من الانتساب إليها.. فلا أحد أقدر من العرب على إبراز تفوقهم.. وافتكاك الرتب الأولى بجدارة.. وتحطيم الأرقام القياسية.. بفارق كبير في النتائج. في كل ما يزري بالإنسان.. ويرتد به إلى الخلف.. وينغص عيشه.. ويدمر فيه روح الحياة.. نجد العرب في المقدمة.. وهم لا يتراجعون أبدا.. بقوة الإصرار التي لديهم. وإذ لا يتوفر في الأخلاق السياسية ما هو أسوأ من الكذب.. فلا مانع من المقارنة بين العرب والإسرائيليين.. وهم أبناء عمومة.. في أقبح رذيلة نفسية ودعائية يمكن أن تغشى سلطة حاكمة.. لتحديد من يستثمر في الكذب أكثر ليحقق أهدافه بصورة أكبر...! ٌٌٌ على خلاف اليهود يكذب العرب على أنفسهم أكثر مما يكذبون على غيرهم.. أقصد على غير الشعوب التي يسحقون عظامها ويسلخون جلودها.. وهم في هذا المقام لا يعنيهم أن يعيشوا حالة فصام أو تمزق أو هروب من الواقع.. مادام الهدف لديهم هو أن يعيشوا أطول فترة ممكنة..! لم يكذبوا يوما من أجل قضايا أوطانهم.. فهذا ما لا يمكنهم التفكير فيه.. لكنهم يفعلون ذلك من أجل السلطة التي يحتفظون بها لأنفسهم.. بينما ولدت وعاشت إسرائيل بتسويق أكاذيب تاريخية خدمة لمشروعها الصهيوني. وبينما يكذب اليهود علنا.. ولا يتحرجون من فعل ذلك.. ولا يجرؤ أحد على إدانتهم.. وتسن قوانين في أوربا تجرم من يكذبهم.. يتعاطى العرب الكذب تحت الأرض.. وفي جوف الليل.. حتى إذا أصابهم ضوء الصباح تناثر لحم وجوههم.. وعرّتهم وسائل الإعلام. الكذب عند هؤلاء العرب طريقة في بذل التنازلات لليهود.. ونمط من الحكم الذي لا يقيم وزنا للرأي العام.. إنه الطريقة الوحيدة في الاستمرار. ٌٌٌ من يصدق العرب إذا كذبوا؟ لا أعتقد أن ثمة من يصدقهم أو يود تصديقهم.. فالعالم برمته يعلم أنهم يكذبون.. من نكبة 1948 وهم منخرطون في مسلسل تزييف الحقيقة وغش الأمة.. واللعب تحت الطاولة. اكتشفت إسرائيل هذه الحقيقة.. فاستنزفت مصداقيتهم.. ولم تعد تقيم وزنا لمجموع لاءاتهم التي أعلنوها في الخرطوم.. ألم يقولوا أنهم سيرمون إسرائيل في البحر فرمتهم في محيط من العار لم يفلتوا منه إلى اليوم.. وادعوا أن فلسطين هي قضيتهم الأولى.. فتحولت إلى كابوس سلب النوم من عيونهم.. وأعلنوا أن القدس بمثابة الخط الأحمر الذي لا يسمح لأي عربي بعبوره نحو إسرائيل.. فانتهت بين أيديهم مجرد عاصمة للدبكة والعود.. وكل ألوان الرقص الشرقي. ٌٌٌ اليهود يؤمنون بافتراءاتهم.. وهي عندهم أصدق ما في توراة موسى.. ولولا هذا الإيمان ما أسسوا دولة ولا غادروا ''غيتوهات'' أوربا الشرقية.. ليطردوا الفلسطينيين إلى العراء.. ويقيموا وقائع على الأرض. فهل يوجد حاكم عربي واحد يؤمن بما يقول؟ لا أعتقد ذلك.. والأقرب إلى التصديق أنهم يكذبون لأنهم لا يستطيعون الصدق.. أو إنهم يفعلون ذلك تحت وطأة العصا الأمريكية الغليظة.. وأحيانا يتحول الكذب لديهم إلى وهم يسكن قناعاتهم.. ويسري في سياساتهم.. فهم مثل أشعب الذي يشيع الكذبة ثم يصدقها. الإسرائيليون أنشأوا دولة بواسطة الأكاذيب.. وأفلحوا في تسويقها عالميا.. أما خلاصة جهد العرب فهي إلغاء فلسطين رسميا من الوجود.. ثم السعي للتخلص من بقايا الإنسان الفلسطيني.. ليسدل الستار على المسرحية. إن تطوير آليات الكذب.. وإلباسه ثوبا من الواقعية السياسية.. وحشد الأبواق لإعلاء صوته.. يعد جزءا من أسلوب العرب في استشراف المستقبل. فهل يقبل عاقل.. أو شبه عاقل.. أن شابا لبنانيا يدعم المقاومة في غزة.. يشكل انتهاكا للسيادة المصرية وخطرا على الأمن القومي المصري.. في حين لا يقدر جندي مصري واحد على استنشاق أوكسجين سيناء.. أو الإشارة إلى أجهزة الإنذار المبكر التي تتجسس على المصريين.. وترصد حركة النمل في أم الدنيا. أليست السيادة السياحية هي آخر ما تفتق عنه العقل الرسمي في مصر العربية؟ هذا مثال للكذب.. وغيره مما يملأ سلال كل الحكام كثير. ٌٌٌ أتساءل: ماذا لو كذب الإسرائيليون على أنفسهم مرة.. كأن يؤمنوا بالسلام مثلا؟ أعتقد أنهم سينقرضون عند أول خطوة لهم في هذا الاتجاه.. فدولة قامت على الكذب.. سيزيلها الصدق من الوجود. هذه هي المواجهة التي يتفاداها اليهود بكل الوسائل.. لأنهم سيخسرونها دون شك. وماذا سيحدث لو أن العرب صدقوا ولو مرة مع أنفسهم؟ سيصابون بالصدمة.. فالوعي الذي خربه الإدمان على الكذب سيتحول إلى حالة متقدمة من الجنون