لا زلت أتذكر الفترة التي سبقت الاستفتاء على دستور 23 فيفري 1989، ما زلت أتذكر النقاش الحر وغير المسبوق بشأن مواد الدستور والمادة 40 منه، والتي أسست للتعددية، وما زلت أتذكر فرح البعض بالخروج من قبضة الحزب الواحد، أو ما كان يعرف وقتها بالجهاز، الدولة وسط الدولة، وتخوف البعض الآخر من التخلي عن سياستنا الاشتراكية التي تربّت أجيال من الجزائريين على بروباغاندا الترويج لها. "هل نحن لم نعد اشتراكيين، قولها لنا بصريح العبارة" قالت متصلة بحصة تلفزيونية، كانت تناقش على المباشر فحوى الدستور الجديد. وكإعلامية كنت سعيدة بالزخم الإعلامي والوجوه الجديدة التي بدأت تأتي إلى مقر "المساء" والتي صارت تتداول على موائد النقاش في الشاشة، التي لم تعد وقتها يتيمة وعرفنا أن الجزائر تملك طاقات، وأناسا لهم أفكار أخرى غير أفكار المرحوم مساعدية وغيره من الأسماء التي ارتبطت بالحزب الواحد، "أين كان هؤلاء" كنا نقول؟ أين كانت لويزة حنون التي كانت تدافع عن أفكارها بحماس غير مسبوق؟ شخصيا عرفتها سنة 1980 وأنا أخطو خطواتي الأولى في جامعة عنابة، وكانت جميلة بشعرها الحني الطويل، وبسخائها مع صديقاتها الطالبات اللائي كانت تزورهن، أين كانت لويزة كل هذا الوقت؟ وغير لويزة كثيرون، سعيد سعدي والهاشمي هجرس، وشوقي صالحي وأيضا عباسي مدني الذي كانت نظرته التهديدية في الشاشة تبعث في جسمي رعبا، وقد عرفنا فيما بعد معنى تلك النظرة ونبرة التهديد، لما تدفق علينا نهر الدماء سنوات قليلة فيما بعد، وعرفت المرحوم محفوظ نحناح الذي قابلته عدة مرات من أجل أخذ تصريحاته، وطلب مني أن أنضم إلى حزبه وأنشط إلى جانبه، وأتذكر كيف ضحك المرحوم بوسليماني وأنا أرد على عرض نحناح بأنه مستحيل أن أرتدي الحجاب أو أناضل في حزب إسلامي، بل أن أناضل في أي حزب كان، لأني أفضل كصحفية أن أبقى مستقلة في مواقفي وكتاباتي. ما زلت أتذكر أول حوار أجريته مع خليدة تومي التي كانت تسمى وقتها مسعودي، وكان أول ظهور لها في صحيفة ناطقة بالعربية. كانت "المساء" وقتها مفتوحة على كل التيارات الإسلامية وغير الإسلامية، وأتذكر كيف أن زملاء في "المساء" ومنهم المرحوم محي الدين عامر ومحمد بوازدية وغيرهما، كيف أطلقوا اللحى واندسوا وسط الحركة الإسلامية في مهمة مهنية تطلبت ذلك. وفي قاعات التحرير، بدأت تتشكل تيارات سياسية مشابهة للتيارات التي بدأت تتبلور في الشارع الجزائري، وبدأ الإسلامي يفصح عن توجهه ويفتي فينا "تعاليم" حزبه الجديد، والقبائلي يجهر بانتمائه إلى تيارات المنطقة، ومن كانوا غارقين في "نعم الأفلان"، صاروا يتملصون من صفتهم، ويلتحقون بالتيار الإسلامي طمعا في مكان لهم في هذه التنظيمات التي بدأت تحتل المكان بقوة، ظنا منهم أنها هي التي ستتولى زمام الحكم وحتى لا تفوتهم الفرصة مثلما فاتت البعض غداة استقلال الجزائر، بدأ النفاق السياسي ينتشر على حساب الأفكار الجادة.لا زلت أتذكر اليوم وأنا أضحك ملء فمي كيف كان بن بلة يقول من سويسرا إنه من بين من حركوا الشارع في 5 أكتوبر من أجل التغيير، ولأول مرة أسمع آيت أحمد وأرى صورته في الصحف والتلفزيون يدعو من سويسرا دائما إلى التصويت على المادة 40 من الدستور، أي على الدستور الذي أعطى فيما بعد الاعتماد لحزبه الذي تأسس سنة 1963 في ظروف ما زال يشملها الكثير من الغموض. وجاء الدستور، وكانت التعددية، وحرية التعبير التي ما زالت من أهم مكاسب هذا الدستور، حتى وإن لحقت بها أضرار في السنوات الأخيرة. وكان أيضا الغول السلفي، وما أتى على يده من دمار ونار وألم. واليوم وبعد عشرين سنة من دستور التعددية، ما زلنا نسير بعسر في مسار البناء الديمقراطي الذي قطعنا فيه أشواطا، انطفأت أسماء، وخاب أملنا في الكثير من الأسماء الأخرى، وإن كان لابد من إعادة التجربة من أجل تحقيق حلم الديمقراطية، فلا شك أن الإجابة ستكون "نعم"!