بفقدان الجزائر المناضل الكبير عبد الحميد مهري، تكون البلاد قد فقدت معها أكبر عقل مفكر ومدبر، وأثقل مخ· فالرجل الذي بدأ حياته السياسية مناضلا منذ الحركة الوطنية وواصل في عهد الاستقلال نضاله كمسؤول قبل أن تجرفه على الهامش، رياح رعيان دخلوا على الخط مباشرة في زمن الردة وهذا العصر الأغبر الذي رفع الأقدام· هذا الرجل، أقول، يلخص الذاكرة الجماعية للوطن وحتى للمغرب العربي الكبير في أصدق صورها وأكثرها واقعية وتمرسا وحنكة سياسية، فإذا كان الجزائريون يعتبرون بومدين أفضل من أنجبت البلاد كقائد في العصر الحديث، فإنهم لاشك أنهم يعتبرون مهري أكبر عقل مفكر في هذه المرحلة· ولهذا كتب البعض في تحاليلهم أن ثلاثة شخصيات منها شخصية بعقل مهري إن هي اجتمعت لمكنت البلاد من الخروج من أزماتها المتعددة والأبعاد والاتجاهات وهذا بالطبع لم يحدث لأن السلطة الفعلية وهي التسمية التي أدخلها مهري في القاموس السياسي لا تريد أن يكون هناك بديل عنها في إدارة دفة البلاد، منذ دخولها عهد الإرهاب، مع أن مهري وهو في منصبه كأمين عام لحزب جبهة التحرير الوطني حذر من دخول البلاد تلك المرحلة قبل وقوعها بأشهر، معتبرا أن أطراف النزاع سيكونون معروفين في البداية قبل أن تخلط الأمور فلا يعرف الفاعلون ويذهب الصواب ويصعب التمييز ما بين الدواب! وعندما يفتح مهري أول باب في عهد التعددية السياسية بمحاولة فصل الحزب عن الدولة وذهاب الحزب للمعارضة في حال الانهزام والحكم في حال الانتصار ويواجه بانقلاب علمي كما سمي، فإن هذا التوجه مازال غير محسوم إلى الآن، مع استمرار ديمقراطية الواجهة كما يسميها مهري نفسه وتغيب المعارضة الحقيقية، وتحويل الأحزاب الى مجرد جمعيات اجتماعية، وهو ما معناه أن الدولة تحتاج إلى من يتمم نضالات مهري السياسية ولا يبدو أن هناك شخصا واحدا مؤهلا حتى الآن للقيام بذلك يملك من الصلابة ما يملكها مهري، ويمتلك مخزونا ثقافيا ضخما وقدرا هائلا من سجلات التاريخ وقدرة على قراءة الأمور قبل وقوعها، وفوق ذلك يتمتع بشخصية محترمة جدا قلما نجد مثلها حاليا في عالمنا العربي· فرحم الله هذا الزعيم وادعو ربكم أن يعوضكم عقلا آخر ولو في نصف قيمته!