استوقفنا منظر غريب بمنطقة تيميزار التابعة لبلدية عمال بولاية بومرداس، ونحن متجهون شرقا عندما شاهدنا فتاتين تتسلقان صخرة كبيرة تختفيان فيها لتظهرا مجددا مع تعرجاتها، ولاحظنا أن المنطقة خالية وخطيرة أيضا خاصة مع تدفق المياه على شكل شلالات صغيرة جعلت سطح الصخرة أملسا ولزجا، لنكتشف بعد ذلك أن الشابتين كانتا تتجهان كعادتهما إلى بيتهما الواقع في أعلى السفح الجبلي في منطقة «هيني» المعزولة التي يخشى الرجال التواجد بها، فكيف بالنساء اللائي يجبرن على المكوث بها لوحدهن بمجرد بزوغ الفجر، موعد مغادرة الرجال إلى مقرات عملهم لتبدأ معاناتهن مع الخوف القادم إليهن، ومنه خطر الحيوانات والوحوش التي تقاسمهن الغذاء والمياه وحتى الإرهابيين الذين يخترقونها دون مواجهة أي رادع. يسكنون أكواخا منهكة فقدت شكلها من كثرة ترميمها من الظلم أن ندعي أن الأشكال الهندسية الغريبة التي رأيناها في قلب غابة تقع على قمة سفح يطل على الطريق الوطني رقم 5 أنها منازل لمواطنين يحملون الجنسية الجزائرية، ومن السخف أن نحاول إقناعهم بأنهم يعيشون حياة عادية حتى ولو اختفت أهم أساسيات العيش الطبيعي لأننا ودون مبالغة سنشارك من تسبب في مأساتهم في جريمة حقيقية، ومهما اجتهدنا لإخفاء صدمتنا إلا أننا فشلنا ونحن نقف على أطلال تلك المنازل التي بنيت بالطوب والحجارة، أسقف أغلبها لا تحمي قاطنيها ومنها من تتكشف لك فيه زرقة السماء وتخترقها قطرات الأمطار، وبالكاد يعرف ساكنوها طعم الراحة خاصة وأنهم يعلمون أنها لن تؤمنهم من خوفهم الذي لازمهم منذ سنوات، فهي مساكن متداخلة فيما بينها عجزنا حتى عن تحديد أصحابها، ويمكن أن نطلق عليها أي تسمية إلا أن تكون منازل يستقر فيها مالكوها ويشعرون داخلها بالراحة، فهم عجزوا عن الاستفادة من الإعانة التي تم منحها لهم بعد زلزال 2003 والتي لم تتجاوز 20 مليون سنتيم، لأن البيوت غير صالحة للترميم من كثرة ما شهدته طوال عقود من الزمن وأضحت غير صالحة تماما في 2012. وحسب إحدى القاطنات في القرية، فإن المعنيين لم يستفيدوا في حياتهم إلا من إعانة الزلزال والتي لم ينلها الجميع وتتوقع ساخرة أن يطلب منهم إعادتها نظرا للظلم الكبير الذي سلط عليهم، وتضيف أن قرار البناء الريفي لم يشملهم ولن يشملهم بسبب العوائق الإدارية وحتى وإن سوي الآمر فلا أحد سيرضى بالبناء في قرية معزولة عن العالم، لن يستطيعوا فيها حتى نقل مواد البناء. وآخرون يستسلمون لمقصلة الكراء في ظل غياب الدولة فشل سكان منطقة «هيني» في إقناع المسؤولين المحليين والمعنيين بخطورة الوضع الذي يتواجدون فيه، إذ وعلى طول السنوات المتعاقبة تعودوا على حل مشاكلهم بأنفسهم سواء تعلق الأمر بتوفير مستلزمات الحياة التي اكتفوا فيها بمجرد الحاجات البيولوجية واستغنوا إكراها عن مجمل ما يمكن أن يثير فيهم الرغبة في الحياة، وتعلموا أن يشقوا لتوفير مجرد اللقمة التي يسدون بها جوعهم، لكن كثيرين منهم ضاقوا ذرعا من حياة حرمتهم كل شيء وفضلوا سبيل التشرد بحثا عن منازل للكراء تأويهم في انتظار تحسن حالهم وطمعا في تمكين أولادهم من حقهم في التعلم دون خشية تعرضهم إلى خطر السقوط من الصخور أو التعرض لحوادث مميتة بالمرور بالمحاذاة من الطريق الوطني رقم خمسة. ورغم معاناة الكراء التي لا يقوى عليها أغلبهم بسبب ضعف قدراتهم المعيشية، إلا أنهم اقتنعوا أن مسؤولي البلدية لن يتحركوا أبدا، بالنظر إلى حجم الكوارث التي يتواجدون عليها دون أن تثير حفيظة السلطات التي اكتفت بمجرد التفرج دون السعي لحل ولو مشكل واحد. وحسب عدد منهم، فإن معاناتهم في البحث عن منازل يسكنون إليها أرهقتهم وأثقلت كاهلهم وجعلتهم يتأخرون عن مواكبة أمثالهم من الجزائريين، دون أن يرتكبوا أي ذنب سوى محاولتهم الجادة تعليم أبنائهم وتخليصهم مما عانوه باعتبار أن في «هيني» تتقلص الفرص إلى أقصاها، وسبق لإحدى المتفوقات والتي تحصلت على شهادة الباكالوريا بتقدير جيد أن توقفت عن الدراسة بسبب صعوبة الالتحاق بالجامعة وتعذر عليها الذهاب والرجوع في أوقات مبكرة صباحا ومتأخرة ليلا مع الأخطار الكثيرة المحدقة بها. وحال الطالبة لا يختلف كثيرا عن جاراتها، إذ تضطر الفتيات على وجه الخصوص إلى التحلي بالكثير من الشجاعة للتمكن من التنقل في أرجاء الغابة التي يقصدها غرباء إما للاستجمام أو لأغراض أخرى، وتحكي إحداها أنها في سيرها تضطر للغناء لإلهاء نفسها حتى أضحت عادة فيها. في حين تعمد أخرى إلى الاستماع إلى أي شيء عبر «الكتمان» حتى لا يقتلها السكون الذي يطبع القرية التي تصبح قرية نسوية بمجرد بزوغ فجر يوم جديد، لأن رجالها يسعون لأعمالهم التي تكون خارجها ولا يعودون إلا وقد غربت الشمس، وتعتقد أنها بهروبها إلى أقربائها تحتفظ ببعض من الطاقة للعودة ومقاسمة حياة مفروضة عليها ويجمع من يسكن في القرية على أن من غادرها أحسن حال منهم حتى ولو أن الخارجين منها يشكون مشاكل بالجملة تؤرق حياتهم ولا يزالون يطالبون بحقهم في مساكن تنتشلهم من معاناتهم. طبخ على نار الحطب وكهرباء تتلاعب بمشاعر المواطنين وحسب السكان، فإن ما يتمتع به غيرهم من المواطنين لا يتوفر لديهم، إذ حتى الكهرباء التي تم تزويدهم بها في منتصف التسعينات تخضع للتأثيرات المناخية بشكل يثير سخطا كبيرا للسكان، خاصة وأن مصالح سونلغاز لا تكلف نفسها عناء إصلاح الأعطاب خشية التعرض لمكروه في الحي، ويضطر المعنيون بعد قرابة الشهر إلى التكفل بنقل أعوان سونلغاز انطلاقا من طريق محفوفة بالمخاطر هجرها سكانها للأوضاع الأمنية المتردية بها، خاصة وأنه لزاما عليها المرور عبر جبال جراح، وانقطاع الكهرباء عن منطقة هيني لا يشابه انقطاعها في مختلف مناطق الوطن لأن ذلك يضاهي قطع شرايينهم، خاصة وأنها تمكنهم من التلفاز ومتابعة أخبار العالم. كما تخلصهم من الركود الذي يطبع يومياتهم التي تتلخص في مجرد توفير ما يسدون به رمقهم، ولا تتوفر فرص دخولهم الشبكة العنكبوتية التي تمثل مظهرا من مظاهر العشر سنوات الأخيرة إلا لقليلين تمكنوا من التحرر من عزلتهم، غير أن غالبيتهم يمضون وقتهم في أعمال ريفية شاقة دون أدنى فائدة، باعتبارها أعمال بدائية ولا تتعدى تربية عدد من الحيوانات الأليفة أو زراعة قطع أرضية محيطة بمنازلهم. كما يضطرون إلى استغلال ما تجود به الطبيعة من حطب للطبخ والتدفئة ولا يستعملون قارورات الغاز إلا في الفترة الصباحية لمجرد طهو الفطور من حليب وقهوة باعتبارها لا تستنفذ الكثير من الغاز. في حين الوجبات الأخرى كلها على الحطب وبنيران الخشب. يقول أحد السكان إن صعوبة توصيل قارورات الغاز حال دون إمكانية استغلالها بالشكل الذي يريحهم، حيث يضطرون إلى توصيلها مرة كل شهر بكراء سيارة يقتنون بها جميع المواد التي سيحتاجون إليها طيلة 30 يوما، من أكياس السميد ومختلف الخضر الجافة والبقول، إضافة إلى الزيوت والمواد الأساسية الأخرى، وتضطر السيارة للعبور مرة كل شهر من جبال جراح على طول أزيد من 18 كلم، في وقت لا يبعد مقر البلدية عن القرية بأكثر من 3 كلم لكن يستحيل العبور من خلالها لعزل الأحجار للضفتين. الكوليرا والتيفوئيد تهدد العائلات التي تشارك الفئران والسحالي المياه لن نبالغ إذا قلنا أننا وقفنا على مأساة حقيقية على مشارف الأخضرية على مستوى الطريق الوطني رقم خمسة، فلم نتوقع أن تشارك 8 عائلات الحيوانات في تناولها للمياه، وأفجعنا اضطرارها إلى اقتناء هذه المياه التي تغير لونها وقيل لنا إنها تستغل فقط لمجرد الغسل، وبين الكارثة وتعليقات المواطنين شعرنا بالخجل الذي انتاب المعنيين من الوضعية التي يتواجدون عليها وكأنهم مسؤولون عنها، وإن كنا قد استغربنا لتمكن هؤلاء من الحفاظ على نظافة كل شبر في القرية، رغم الندرة الشديدة للمياه ولولا تفقدنا للمنطقة لاعتقدنا أنهم يحظون بأنابيب المياه، واستكبرنا حرص النساء خاصة على تنظيف كل ما يتعلق بعائلاتهن وتحديهن لندرة المياه، فهن يلاحقن أي نبع أو بئر تتدفق منه المياه وإن كانت الحيوانات قد أفسدت عليهن مساعيهن فلطالما وقعت في هذه الآبار الفئران، وإن أسعفهن الحظ حصلنا على الأدوية لكنهن أغلب الوقت يقتنين المياه الملوثة رغم علمهن بأن الحيوانات التي تشاركهن فيها قد وقعت بها وأضحى احتمال تعرض السكان إلى الأوبئة من تيفوئيد وكوليرا وارد جدا. ويشكو السكان فعلا من هذا المشكل الذي قيل لنا إنه يفقدهم صوابهم خلال شهر رمضان للمشقة التي يقاسونها لتوفيره، فالمياه الصالحة للشرب لا تتواجد إلا بمنطقة عين السلطان بقلب جبال جراح على بعد 4 كلم، والوصول إليها لا يخلو من أخطار جمة وسكان المنطقة أدرى بها على رأسها التواجد المكثف للإرهابيين، لكنهم يحاولون إخفاء الأمر للتمكن من العيش لأن الاستسلام للحقيقة يعني الموت بالنسبة إلى أشخاص فرضت عليهم الظروف المجازفة بحياتهم في كل خطوة يخطونها، وحتى هذه المجازفة أصعب من أن تنالها عدد من النساء فمنهن من تفتقر إلى رجل في المنزل يتكفل بالمهمة. في حين يستحيل عليهن تعويض ذلك فيضطررن لقبول مساعدات الجيران، وقديما كانت بعضهن تغادرن منازلهن في ساعات الصباح الأولى ولا تعدن إلا قبل ساعات من الغروب لمجرد عشر لترات فقط فهن لا يقوين على حمل أكثر من ذلك. لا أفراح ولا مواليد جدد والحياة تتوقف في «هيني» يبلغ أصغر ولد يقطن بمنطقة هيني 12 سنة وهو مدلل الجميع يحظى بحب كبير، لأنه آخر من رأى الحياة بالقرية لأن الجيل الأول تحمل ما تحمله على آمل تحسن وضعياتهم، إلا أن الجيل الثاني فقد الأمل نهائيا بعدما فشل في توفير أدنى ضروريات العيش الكريم ورفض توريط الفتيات في مأساتهم. في حين رفضت أخريات إقحام أنفسهن في هذا العالم الظالم، غير أن منهن من تمكنّ من التخلص من هذه الحياة وتم زفهن خارجها. وعلى العموم، فإن الأفراح غادرت نهائيا هذه القرية التي أضحت ملونة ببؤس شديد لولا حقن الإنعاش التي يزودها بها شباب ذاقوا طعم الرفاهية عند أندادهم وأعلنوا رفضهم لاستمرار الوضع على ما هو عليه، وشددوا في عدة مرات من محاولاتهم لتنبيه السلطات لمعاناتهم وحقهم في العيش الكريم ومعه الارتباط بفتيات يقنعوهن بحياة طبيعية لا تشوبها عوائق الخوف من المجهول أو أخطار لا يمكن تجنبها. وتبقى معاناة السكان أثناء حالات الطوارئ تثير الكثير من السخرية، باعتبارهم ابتدعوا وسيلة لتمكين المرضى والذين تعرضوا الإصابات أو حوادث من الوصول إلى المشافي، حيث يعمدون إلى هيكل سرير عملوا على تشكيله، يتسع للمريض ويقيدونه خشية الوقوع، ومن ثم ينقلونه على طول الجدار الصخري وصولا إلى الطريق الوطني، ونفس الشيء في حالات العودة وهي أصعب مرحلة باعتبار أن المسعفين الذين يكونون أهل القرية يعانون الأمرين لثقل المصاب وصعوبة التسلق. ومن المرضى من التحق بالأقارب إلى حين الشفاء، ومنهن امرأة تعرضت لشلل نصفي استدعى معها المكوث إلى أجل غير مسمى عند أهلها بالأخضرية وسبق لعشرات النساء أن وضعن مواليدهن على مستوى الطريق الصخري وهن يحاولن عبوره، وأغلبهن غادرنها نهائيا لهذا السبب، خاصة وأنهن وجميع قاطني المنطقة لا يمكن إسعافهم إلا بشق الأنفس، ويبقى المعنيون يحتفظون بالهيكل للحاجة الملحة إليه، في ظل غياب المعدات اللازمة ومعها تكفل المصالح المعنية بالأمر. القرية في مرمى أحجار محجرة تيميزار لا تقتصر مشاكل القرية على مجرد النقص الفادح في أساسيات العيش الكريم بل تتعدى إلى أكثر من ذلك، فالسكان معرضون طوال أيام الأسبوع إلى أحجار محجرة تيميزار التي لا تبعد عنهم كثيرا، حيث وفي كثير من الأحيان يهرولون في كل مكان خشية إصابتهم بها، وسبق لأحدهم أن حمل أحد هذه الحجارة إلى مقر البلدية في محاولة منه لتحسيس المسؤولين بالخطورة التي يضطرون لمواجهتها يوميا، إلا أن الوضع لا يزال على حاله ولم تتحرك السلطات حيال ذلك لدرجة جعلت السكان يشعرون أنهم منبوذون، إذ لا يستفيدون شيئا من المشاريع التي تشيد على مقربة منهم بل تزداد منازلهم اهتراء.