منذ البداية أقول إنه لا توجد شرائح مثقفة جزائرية متماسكة ذات أيديولوجية محددة وواضحة ومؤسسة على منظومة فكرية، كل ما هناك هو شذرات أفكار مبعثرة تتميز غالبا بالتناقض حتى عند المثقف الواحد. وفضلا عن ذلك فإن وجود فكرة أيديولوجية ما عند هذا المثقف أو ذاك تبقى دائما معزولة ومنقطعة عن الممارسة. ومن خصائص المثقفين الجزائريين أنهم يغيرون مواقعهم الإجتماعية، وبالتالي أفكارهم حسبما تمليه المصلحة الشخصية والموقع الإجتماعي أوالسياسي.. هكذا يكون هذا المثقف يساريا في الصباح وفي المساء يصير يمينيا، وكثيرا ما يكون الإثنين معا في آن واحد. ويذكرني هذا بقول أحد النقاد السياسيين أن المثقف اليساري عندنا أحمر من الخارج وأبيض من الداخل. وأريد أن أذهب بعيدا وأحاجج أن المجتمع الجزائري غير ناضج فكريا لكي يفرز نخبة من المثقفين ذوي الهوية الأيديولوجية المؤسسة على الوعي النقدي العلمي. ثم إن الفكرة الأيديولوجية تكون عاطلة إن لم يعبر عنها في إطار الأجهزة الأيديولوجية ذات الطابع المدني، أو السياسي والإقتصادي، وفي إطار الفعل والإنتماء غير المتذبذب. إن المجتمع الجزائري هو مجتمع ما قبل الأيديولوجيا بالمعنى العلمي لهذا المصطلح، وأشدد على أن هذا الوصف ينطبق على مثقفي هذا المجتمع أيضا وتماما، فالمشكل الخطير والمعقد الذي يعاني منه المثقفون الجزائريون بشكل عام يتمثل على نحو ملتبس حينا، وسافر حينا آخر في اهتزاز وتأرجح مواقفهم وانتماءاتهم، وفي حسابات الربح والخسارة التي تحركهم كأشخاص، وكوازع ثقافي وأخلاقي غير مستقر أبدا. بهذا الخصوص إن المثقفين الجزائريين لا ينتجون ولا يصنعون الأيديولوجيا، بل إنها في شكلها المستورد دائما هي التي تحدد لهم وتقولبهم، وتنتجهم، وكثيرا ما يكتفون باستنساخ ما هو مثبت في نفوسهم في صورة شعارات ينقصها الصدق والوفاء.. فالمثقف العلماني عندنا في الجزائر هو علماني موسمي حينا وعبثي وجهوي غالبا وأصولي في سلوكه اليومي حتى النخاع. أما المثقف الجزائري الذي يختار الأديولوجية الدينية فإنه في معيشته يمارس الربا ويحتكر الثروة، ويغرق في الممارسات الرأسمالية التي تتناقض كلية مع مبدأ العدالة والمساواة. إذا أخذنا بعض نماذج مثقفينا كحالات دراسية فإننا سنبرهن بسرعة على صحة هذه الأحكام.. إن مصطفى الأشرف، مثلا، في جل كتاباته كان يدعو إلى ضرورة بناء الثقافة الوطنية الديمقراطية، وإلى بناء المجتمع الديمقراطي ولكنه في سلوكه السياسي ضمن جهاز السلطة السياسية الذي كان هو جزء منه، فقد كان غير ديمقراطي وكما أنه قبل بالحزب الواحد، وبالمركزية السياسية، بل قد كان قوة فعالة في هدم السلطة غير الديمقراطية لسنوات طويلة حتى وفاته. وإذا قيمنا مسار الدكتور عد القادر جعلول الذي كان لسنوات طويلة يصنف نفسه يساريا فإنه في الأخير انضم إلى السلطة كمسؤول كبير في الحكم رغم تناقض التوجه الرأسمالي لهذه السلطة مع أفكاره السابقة ذات الشعارات الماركسية. هكذا فأيديولوجيا المثقف تقاس بعلاقة هذا الأخير بالمجتمع ككل وبالخيارات الشعبية. إذا استخدمنا هذا المعيار فإننا نصاب بالخيبة من المثقفين الجزائريين، وخاصة في مرحلة ما بعد الإستقلال.. لست هنا بصدد تحليل مفهوم الأيديولوجيا، وتاريختيها أوكيف تبنى، أو كيف تعمل؟ إن هذا يتطلب وقتا طويلا ودراسات مكثفة، فالذي أقصده في هذه العجالة هو رصد المشهد العام لواقع المثقفين الجزائريين الذين يشكون من التهميش دون مقاومة، ويتحدثون عن التنوير وهم مقيدون بالمخزون الثقافي اللاواعي الرجعي، ويرفعون شعار الديمقراطية وهم يمارسون الإقطاعية في بيوتهم، وفي مواقع المسؤولية حينما تسند إليهم.