للكلمة غنجها وللإبداع حكاياه المميزة إنها تجتاح المسافات ولا تأبه بالمكان همها الإبداع والاحتراق في أتون الحرف والكلمة ،إنها المبدعة الشاعرة والروائية اللبنانية سيرين بلوط ، اسم أدبي موشح برائحة العبق والشذى اسم يخترق كل المسافات الإبداعية يشدو بالقصيد ويترنم في بهو الرواية ، رحلها إلى الكثير من المدن جعلها تعجن الكثير من آهات الغربة بآهات الكتابة فكانت مجموعتها الشعرية......من بين ما تلوح به للقارئ ، عشقها للجزائر جعلها ترفع رايات المحبة والوفاء التقتها الكثير من الصفحات الأدبية والثقافية الجزائرية لتفسح لها مجال للتعبير، وهانحن أيضا نمنحها مساحة للبوح الجميل عبر هذه الأسئلة الروتينية لتقول لكم سيرين بلوط ما يلي : لحديث البدايات شهوته الطاغية ماذا تقولين لنا؟ - نسرين ياسين بلوط ولدت في بيروت عاصمة الثقافة والجمال، نشأت في منزل يسوده جو الأدب والشعر نظرا" أن والدتي رحمها الله جهينة الحر شاعرة وأقاربها شعراء فتسربت روح الشعر الجياشة الى قلبي وربما كانت موجودة أصلا" في الجينات. ربما سبقت عمري بسنين عديدة عندما بدأت أقرأ لجبران خليل جبران وأنا في العاشرة من عمري وبدلا" من أن ألهو بالدمى كباقي الأطفال كنت أتخذ من الكتاب رفيقا" وأبحر معه في طيات الخيال المنسدلة في الذاكرة الى اللانهاية،رحيل أمي وأبي باكرا" أثر كثيرا في مسيرة حياتي خاصة اني كنت ما زلت في الثانية عشر من عمري فرسخ في قلبي حزن خاص عميق لا استطيع أن أفسره وانصهر معي حتى التوحد. وكذلك الحرب التي شهدها وطني على مدى سنوات طويلة قاتمة سوداء، في السادسة عشر من عمري فزت بالجائزة الأولى في لبنان بكامله في جائزة لابلياد التي ضمت جميع مدارس لبنان، بعدها مباشرة حزمت حقائب الحنين والأسى وهاجرت إلى كندا أجتر اللوعة والخيبة لأني انتزعت من وطني كما تنتزع الوردة من بستان ترعرعت فيه ولم تعرف غيره مقرا" وأمانا" لها. كل هذه العوامل موهبة الشعر المتوارثة عن والدتي، وفاة أبي وأمي، الحرب في وطني، الغربة صنعت هوية نسرين، ولهذا دائما" تسكنني الطفلة نسرين أكثر من عمري الثلاثيني الحقيقي، وقد عبرت عن هذا في قصيدة رؤيا في بحر الشوق بقولي: صغيرة ما زلت..رغم عمري الثلاثيني.. صغيرة تتلفت لغور البحر... وأرصفة الموج وأمتعة المرافئ.. كم مضى من العمر لا أدري.. لم أعد على عده قادرة.. طويت السهاد من منهله.. عبرت المساء من ربوته.. ولم أعد بعد من صبوتها..
الكتابة عملية تنفسية فإلى أي مدى تشعر نسرين بالراحة أثناء الفعل الكتابي؟ - لا أبالغ عندما أقول بأني أنصهر بكلماتي حدّ التقمص فتأخذني وربما أنا من آخذها في رحلة تتقلب فيها الفصول الأربعة بكل تفاصيلها. فأصبغها بلون الخريف الأرجواني الأغصان وأتلفح معها برداء الشتاء المتهدل بلوعة المطر والريح وأتدثر معها بانسياب الندى الربيعي على ثغر الورد..ثم أزفها أنشودة الصيف بصبابته المترفة بروح الحنين..فأقول: ماد بي الحنين إليك... والصيف يتسرب إلينا... من لظى الشمس المستعرة بأشعتها... تنصب في أغواري الملتهبة شوقا.... تعبق في خاطري كالحلم الأزلي... الوردي الظل المتلحف بالأفق.. يثمل من خمر العشق توقا...
هكذا أرونو للكتابة وترنو إليّ وأسمو معها عن واقعي وجميع من حولي وأهرع بها من ماض كئيب يلاحقني وأشيد بها غدا" ربما يكون أجمل مما مضى. فالكتابة هي حضن يفتح لي ذراعيه دائما" وأبكي وأتنهد في خباياهوأنفث له همومي وفرحي وأسراري الصغيرة. هو عالمي الصغير. تزاوجين بين الشعر والرواية أيهما أقرب إلى نفسك وأين تجد نسرين راحتها؟ - الشعر والرواية بالنسبة إلي وجه واحد من وجوه الابداع الذي أجيده وأبحر فيه، فأنا أكتب الرواية بأسلوب شعري وأسبر طياتها بنفس الروح التي تتقمصني في كتابة الشعر، الخيال واحد ،والروح واحدة والقلم هو قلمي يعني يستطيع القارئ بسهولة أن يتعرف على أسلوبي من خلال الرواية لأنه يتطابق مع أسلوبي في الشعر، لهذا فأنا أجد نفسي حرة الأنفاس طليقة الأحرف والعبارات في كل منهما، كأن الاثنين أولادي ولا استطيع أن افرق بين ولد وولد.ربما في الرواية اتعامل اكثر مع التجارب البشرية من خلال الأحداث المتتابعة لكن النتيجة بأني أؤدي رسالة واحدة وأحاول أن أقدمها بقالب شيق من الكلمات المعبرة والأسلوب الشيق. جربتي الغربة ماذا منحتك الغربة وماذا أخذت؟ - لغربتي وجوه متعددة وكثيرة الانحدار والصعود. متلونة بشتى ألوان الخيبة والامل والنجاح والضعف والقوة. غربتي عن وطني وغربتي عن اقرب الناس إلي في فترات صعبة من حياتي. وكذلك كانت غربتي عن ذاتي لأنني اعتبرت أني بفراقي عن الوطن فقد أودعت روحي هناك في ربوعه الجميلة وبت ضائعة تائهة شريدة. أنشد العودة وأبحث عن هويتي عند هاوة سحيقة من الحيرة والهذيان. وقد عبرت عن هذا في قصيدة من ديواني "أرجوان الشاطئ" أقول فيها: وَتعربد يا قلبي... ماذا دهاك؟؟ جحر الدهر كثغر الكدر يدميشفقا.. أنا ضللتُ دربي... والسحب الرابضة في عقر الزمن.. تسن أمانيسخاماً... والطين تحيله أرقا... الغربة أخذت مني برقع السلام الذي لطالما تلحفت به خلال تواجدي في بلادي. أخذت مني الاحساس بالانتماء والأمان. كما سلبتني ذكريات الطفولة وأحلام التواصل مع ممكلة الشعر التي بدأت بالتوهج عند فوزي بالجائزة الأولى في وطني. وبالمقابل علمتني الاعتماد على النفس والمثابرة والصمود في وجه العقبات والتأقلم في كل ما هو جديد. في الغربة تقتات النفس من شذى الحنين وترتوي به فتتوهج عطاء وتتهذب حبا" لأوطانها. والغربة تفجر الابداع وتنميه وترتقي به إلى أسمى هامة. العلم الافتراضي هل أساء للأدب العربي أم سهم في تطوره وأعطاه فرصة أخرى للانتشار؟ - أنا أحس بأن العلم الافتراضي اساء للكتاب بشكل أو بآخر. فبالنسبة لي هناك علاقة حميمية تجمع بين القارئ والكتاب الورقي وتشده إليه وتعلقه به.رائحة الورق وصف الكلمات ولمس الورق كل هذا يؤثر في شغف القراءة عنده ويبني له علاقة وطيدة مع الكاتب نفسه وحالته النفسية والانسانية عند الكتابة. عندما نذهب الى المكتبة نحس باللذة وشعور المغامرة بأننا سنكتشف عالما" جديدا" من آخر صيحات الكتب وابداعاتها وكأننا نذهب في رحلة استكشافية ثقافية. لكننا عندما نقلب الكتاب عبر صفحات الانترنت فاننا نمل من قراءة الحروف دون تحسسها.فكأننا نخاطب شخصا" مجهولا" لا نعرف اذا كان موجودا" حقا" أم أنه محض خيال. ولا نلبث أن نمل وننتقل بسرعة إلى كتاب آخر دون أن ننهي الكتاب الذي فتحناه سابقا". السهل دائما غير مرغوب فيه. طبعا التطور العلمي جميل والانترنت له حسناته أيضا" فهو يساعد على تنسيق بحث مطول عن أي شيء نريده ويمدنا بمعلومات قيمة ومفيدة. لكن بالنسبة لموضوع الكتاب فأنا ضد موضوع التصفح عبر الانترنت. كيف تعامل النقد مع سيرين؟ - ان كان نقدا" مهذبا" وبناء" فأنا أرحب به وأعتبره مشعلا" يضيء لي طريقي حتى أتجنب الكثير من المطبات التي من الممكن أن أتعثر بها. لكن ان كان النقد جائرا" وغير منطقي فإنني لا أتقبله وأتجاهله تجاهلا" تاما" ومطبقا". لأن الأقلام الناقدة الهادفة تبلور الفكر وتحث المرء أن يتقدم للأحسن لكن الأقلام الجائرة تحاول أن تلقي بنجاح الانسان وابداعه الى الهاوية وهو ما لا أسمح به على الاطلاق. صدر لك مؤخرا ديوان شعري بعنوان رؤيا في بحر الشوق كيف تحديثنا عن هذه التجربة؟ ديوان رؤيا في بحر الشوق كان خلاصة زيارتي للحبيبة الجزائر وتعلقي بها فقد رصعته بقصيدة " سفينة الشهداء" المهداة اليها وضمنته قصائد عاطفية وانسانية ووصفية. كانت الجزائر هي الرؤيا التي كما تضمن قصائد لوطني الحبيب لبنان والجنوب الصامد بوجه النوائب. لهذا فقد طبعت الديوان في الجزائر اهداء لها وكذلك للانفتاح أكثر على القارئ المغربي والتقرب منه والنهل من ثقافة البلدين بلاد المشرق وبلاد المغرب. فالتواصل يشيد آفاقا" متينة ووطيدة. تقولين في إحدى الحوارات التي أجريت معك أن ديوان رؤيا في بحر الشوق يلخص زيارتك إلى الجزائر هل من توضيح أكثر؟ - كما قلت فإن للجزائر قصة معها.. قصة بكل حذافير الرواية الطويلة المتشعبة الآفاق والأبعاد والأبطال والأحداث واستحكام الجراح في طيات القلب وبسمة الفرح في رحاب الروح. قصة نسجتها ولخصتها في قصيدة "سفينة الشهداء"..وأقول في مطلعها: " للجزائر...قصة معها... فيمد الدجى في أشواقي... يستوقفني لحظ...وقلب يذوب... في صمت...ووجدان... بها سحر تخفق له الألباب... يرق له الزهر...كشطآن خضراء... تصبغها برونق أزلي... تصفق للمجد...لعز الطوفان.... للجزائر....وله لها.. يجلو الأديم من غمار الظن... يسكب رضاب الكوثر... في الروح...يترنم بها الطير.. على قمم الأفنان... علاقتي بالجزائر فيها سرية جميلة وحب كبير ووله لها. بعضهم اعتقد بأنني جزائرية المنشأ بسبب تعلقي بها ولكن رب وطن لم تلد فيه ولكنك تكن له حبا" يكاد يوازي حبك لوطنك نفسه. ربما صادفت أو قد أصادف الفضيل والسيء كما في أي بلد آخر لكن لا أعتقد أنني ان منيت بالخيبة من شخص واحد فهذا معناه ان يتزعزع حبي لوطن بأسره لا..حبي للجزائر لا يشوبه أي شائب أو يعوقه أي عائق. هل استطاعت فعلا المرأة المبدعة أن تعبر فعلا عن المرأة؟ - سأتحدث أولا" عن تجربتي في هذا السؤال. أنا كامرأة تحدثت عن كل خلجات الفرح والحزن والضعف والقوة التي مررت بها في تجاربي في الحياة. تحدثت في ديوان "أرجوان الشاطئ" عن مرارة الخيبة التي أدهشتني حد الخذلان من الحبيب وعن غياب الأهل والصديق والحبيب وعن أحلى لحظات اللقاء التي تحظى بها المرأة الأنثى الحقيقة وعما يجيش في صدرها من تمرد على المجتمع العربي الذكوري الظالم الهاضم لحقوقها. في قصيدة " تنفسي حرية" أخاطب المرأة مباشرة كأنني أتحدث عن نفسي وأقول : اخلعي عنك ثوب السكينة.. ترنح الفجر سكرة لمحياك.. وعبقت أنفاسه منك..ياسمينا.. دعي عنك غبار الجهل وانتفضي... من دونوية الشرائع .. يغص بها شرقنا.. وتنفسي حرية.. تنفسي حرية.. مات عصر الحريم فلا تحفلي.. بفجاج متقدة كنت لها تساقينَ... وفي موقف الخيبة من الحبيب وغيابه عني عبرت عن هذه اللحظات بقوة أصف فيها نفسي ب"ملكة الغروب" فأقول: كالبرق يومض حسرات.. في ثنايا الروح... أبتعد عنه..كي لا يؤلمني أكثر.. ربما لو لم تسطع الشمس.. ذاك النهار المخملي ولم تدعني أعبر.. إلى كنه ذاته لما أحببت وتألمت..ولما تصدعت كلماتي ونبذتها الأسطر... ألملم أشلائي...انتشلها.. أصبغ قلمي بحبر الخذلان.. انه الماضي فثوري وانتفضي حطمي قلادة الصمت ودعيه يفر. من ذاكرة مهشمة.. آلمها تشرين والمطر... غدر الحب كرحى الظلام فدعيه... دعيه لعالمه الفولاذي.. ليجاذبه أطراف ريائه... وعودي....عودي يا ملكة الغروب لرحيق الزهر... هكذا عبرت عن أصعب المواقف التي قد تتعرض لها كل أنثى وعن لحظات الأسى والتحدي والجمال. واختصرت كل المعاني بمعنى "ملكة الغروب" التي تشق جلباب اليأس بالقوة والاندفاع وتستقطر من ضعفها العزيمة والارادة. بالنسبة لباقي المبدعات العربيات فالكثيرات منهن عبرن ايضا بأقلامهن عن واقع المرأة وأحاسيسها. وأنا أحس بأن الرائدة في هذا كانت الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي أضافت رونقا" تدرج في قصائدها الرائعة البالغة الشفافية. - هل تحملين في الأفق مشاريع أدبية أخرى؟ - نعم انشاءلله هناك رواية كتبتها وهي جاهزة للطبع وأنا حاليا" بصدد كتابة الجزء الثاني منها لكن الجزء الأول سينشر قريبا ربما في مطلع الخريف المقبل وكذلك هناك ديوان ثالث لي لكني لن أطبعه مع الرواية حتى يأخذ كل عمل نصيبه وحقه من الانتشار والقراءة. -هل تحلمين بالعودة مرة أخرى للجزائر؟ - ومن قال أني ابتعدت عنها أصلا". هي في الروح باقية ولا يختفي بريقها بل يظل مشعا" في كبد الآفاق. أكيد سأعود إليها ولن يمنعني من زيارتها مانع فهي وطني الثاني أتنشقها كوردة الأثير الخالدة في القلب وفي الوجدان. وبالمناسبة بعض من أحداث الرواية بجزئيها الأول والثاني حدثت في الجزائر. -ماذا تقولين في الأخير للقارئ الجزائري؟ - أقول بأن وطنهم جميل ورائع يشبه وطني وبذلت من أجله الكثير من الدماء وأحيي فيهم تقديرهم وحبهم الجم له وأنني أتمنى أن يسيل صدى كلماتي على قلوبهم الشفافة وأن تصل أحاسيسي إلى أعماق قلوبهم وأن يكون هناك تواصلا" بين بلاد المغرب والمشرق حتى نلقي الضوء على حضارة وثقافة كلاهما.مع محبتي وتقديري .