صحيحٌ أنَّ لكلّ زمنٍ رجالاتٍ و مبدعينَ ، و يُخطئُ مَنْ يعتقدُ بأنّ الإمكانات التي توفَّرُ للواحد منّا - كما هي حالُنا اليومَ - ستجعل منه روائيًّا أو شاعرا أو فنّانا أيًّا كانت درجةُ إبداعه و عبقريّته.و لو نقلّبُ صفحاتِ تاريخنا الأدبيّ القريب ، لوجدنا أنّ الكتُبَ النّادرةَ و الدّواوينَ و الموسوعاتِ ، التي كانت تكتنفها الجودةُ و يُضيِّقُ أنفاسَها الجوُّ العامُّ لمعظم البلدان العربيّة آنذاك - استعمار/ فقر / اقتصاد متدهور / فضلا عن قلّة المراجع - مقارنةً بتكنولوجيا اليوم لمْ تكنْ همًّا و مطلبًا ، و سعيًا ؛ما يجعل من أسباب التّحصيل ( تثقّف / تفقّه ) عواملَ صعبٌ إدراكُها؛ أو لنقلْ - بحكم تلك الأسباب السّابقة - مبحثُ أولي النّعمة من الكتّاب و الأدباء و الفنانينَ ؛ فما كان بين يدي الأمير الشّاعر أحمد شوقي لم يكنْ بمقدور شاعر النّيل حافظ إبراهيم.و لأوَجّهَ الكاشفَ إلى زاوية المعرفة ، التي كان يركن إليها هم ، و مقدار و كميّة الإبداع التي صدرتْ عنهم ؛ و لا أريدُ أن أقلّلَ من شأن الزّاوية نفسها لدينا نحن اليوم، و قد يكونُ الفارقُ بينهما شاسعا أو ضئيلاً ، ليس بمبحث همّي في هذه السّطور ، إنما مقدارُ العطاء و قمّةُ التّعاطي و صدقُهما مع ما كان داخلا في نطاق المخزونِ المعرفيِّ لديهم ؛ و لا أجدُ ما يُفسّرُ هذا الفارقَ غيرَ ما تداعى - في زمن الرّدّةِ الثّقافيّة اليومَ - من تجاريّةٍ لا مقوّمَ لنهمها و لا ضابطَ ، لا تريدُ أنْ تُفرّقَ بين الأهمّ من المهمّ ، قبلَ أنْ تسوق إلى مَظانّنا الجمالَ من القبح . ففي زمنٍ غيرِ بعيدٍ كان التّكالبُ على حرفِ أحدِهم لا تفقَه حسَّه هذه التجاريّةُ العرجاءُ ، و إنْ تسلّلتْ إلى سُوقِها سلعةٌ ، تعترفُ بعدم جودتِها ، و لكنّها تُؤمنُ بنزاهةِ الطّلب و حُسنِ العرض. اَعترفُ بأنني أكتبُ بحزنٍ عن أملٍ أتعشّقُ نيلَ مناه ! و تُعجزني ردّةٌ تُوقّرُ الجميلَ ، و تحفظه بصناديقَ زجاجيّةٍ لمّاعةٍ بمتحفٍ نزورُهُ كلّما ساقنا الحنينُ إليه.و اَعترف بأنهم كانوا يكتبون بأملٍ عن آلامهم المشْرقةِ ، بنور مشاربِهم و طُهرِ رؤاهُم ، و قد أسّسوا لكلّ هذا بعد عناءٍ و جهدٍ و عملٍ و حبٍّ ، و كانوا على أملِ أن نحفظَ العهدَ و نَمُدَّ في أجلِه. يخفق أنينُ مُوجعاتِ القلبِ و تطفو مُهمّاتُ الفكر شيئا فشيئا ، و تسكنُ الجوارحُ إلى طمأنينةٍ ،كلّما علِقتْ بحلّ إحداها ، و لكنَّ النّبضَ المتشرّبَ بالحزن ،المُتمنّعَ عن السَّفاسِفِ يجدُ ضالّتَه في تلك الثّورة ، رغمَ ما تسوق من دمَارٍ أو خرابٍ ، معتقدا بحلول زهرٍ جديدٍ ، مُتولّدٍ عن رمادٍ كثيب ! إنّهُ حُلُمٌ واحدٌ ، و ألمٌ واحدٌ ، و آمالٌ مختلفةٌ..تتداعى كلُّها بنبض القلم .. المستفردِ بأنينِه ؛ المستوحش بحنينه المعتادِ إليهم ، مؤمنًا بنبوءة الأقلام و خلافة الحرف ، معتقدا بنزول الوحي السّاحرِ ذاتِه على رؤوس تلكَ السّطور ، و لكنْ بحُلّةٍ قُدُسيّةٍ مغايرةٍ ، ظانًّا ( بعبثيّةِ ألبير كامو و فيكتور إيغو و بعبقريّة العقّاد و رؤى المنفلوطي و نرجسيّة نزار و شبح السّيّاب و ثورة مطر و حزن الشّابي و فلسفة جبران و عشق السّمّان و رقّة مَيْ !..) و لا غروَ أنّ ما تدثّرتْ به آفاقُهم سوى ما تداعى إلينا بعضُ ألقِه و قلقِه و شبقِه! أؤمنُ بخلافةِ الحرف و أكفرُ برئاسةِ الأقلام ..و قد تستطيع إقامةَ حكمٍ لحرفٍ و لا يكون لقلمه أيُّ صولجانٍ و هيبة ٍ، يُثنيان عليه كبرياءَه و يُشيدان بعنفوانه ؛ و قد يحكمُ حرفٌ قبلَ و بعد مماتِ قلمِه ، على فقرِ حالِه ، و قد وهبَ الدّنيا غنًى لا يُوصف. إنّ ما يتداعى إلى نُهانا دونَ إذنٍ منّا ، هو نفسُهُ ما تملّك الذينَ قبلَنا دون إذنٍ منهم أيضا.و القيمةُ التي نرجوها من هذه الزّيارةِ أنّ ما تسلّلَ إلينا كم سيكونُ ثمنُه في حياتنا قبل مماتنا ؟ و نحنُ ندركُ أنّ ما يُوجعُ ظهرَ حرفِنا اللحظةَ و لا يأبه بأنينِه أحدٌ ؛ هو جالبُ الحظّ السّعيدِ و العلاجِ الشّافي لما يوجعنا بعد لحظاتٍ ! و الشّاغلُ أنّك تقولُ كلمتَكَ ، و تنثرُها بين النّاس ، و تأملُ ما تأملُ ؛ و المصيرُ مجهولٌ و النتيجةُ محسومة.