اللّيكولْ.. كلمة لها وقع خطير يا سادتي، في قاموس جيلنا – نحن أطفال القصور التواتية - زمن السبعينيات، لهذه الأخيرة حكايات غريبة وطريفة، قد لا تنتهي سريعا.. بحكم أن نوادرها لا تكون إلا في أساطير الأولين، وأفكار المجانين، وهلوسات المعتوهين.. بل ربما قصّها يتجاوز هاجس ما يدفع بسببه الأولياء أبنائهم نحو المدارس الابتدائية بغرض التحصيل المعرفي؛ غير أني صراحة، لا أدري كيف عرّبناها أو ترجمناها؟ ولا كيف شاعت بيننا؟ وأصبحت مصطلحا رامزا للدلالة على المدرسة، كل الذي أتحقّقه وأعلمه جيدا، أنني بدأت استوعب فهمها الحقيقي، بعد دخولي المرحلة الثانية من التعليم الابتدائي، وهو المستوى الذي بدأنا فيه تعلّم الفرنسية مع معلمنا البشاري إبراهيم – ذكره الله بالخير - عرفتُ حينها، أنها تعريب حرفي للملفوظ الفرنسي (L'Ecole). ثمّة أمر أخطر من هذا والله.. وهو أن البعض من ساكنة قصورنا الطينية، في ذلك الزمان، كانوا يصفون هذا المرفق ب(المَنْكولْ)!! فقد تشكّل في تفكيرهم الجَمْعي، صورة نمطية عن المدرسة، كونها من بقايا الرّومي.. ولازلت أذكر، تلك الأغنية الصبيانية، التي كنا نتندّر بها (المعلم يا بوبريطة.. يا الرّومي لكبير..)، لذلك وجدوا لها نعتا بغيضا ومقرفا، فاصطلحوا عليها المَنْكولْ، بحكم أن أغلب العائلات الإقطاعية، المعروفة بممتلكاتها من البساتين والواحات، قد وجدت في ذلك هدرا لوقت أبنائها، وهي حيلة مصطنعة كذلك، لعدم شرود أطفال الخمّاس عن خدمة الفقّارات والواحات. يظهر لي من الشجاعة بداية، القول بالاعتراف، إن أجيالا غفيرة من أندادنا، قد دخلوا المدرسة، ليس من أجل المعرفة.. إذ لا أحد ينكر، من أبناء قصورنا الطينية والمناطق النائية يومها، أنه لم يدخل المدرسة بسبب الخبز الباريسي ونعومته المستلذّة، أو كما كنا نسميه خبز (الكُوشَة)، فقد لعب هذا الأخير، دورا خطيرا في دخولنا للمدرسة، والحمد لله عليه.. ولعلّ هذا العشق الجنوني لخبز الكوشة، مردّه بالأساس، كوننا سئمنا خبز القمح والشعير البَلْدي الخشن، بحكم أن قصورنا الطينية في تلك الفترة، كانت تعتمد اعتمادا كليا، على ما تنتجه من محاصيل بساتينها وواحاتها، ولم يكن لنا عهد باستيراد السميد والسّمْباكْ بعد، الذي جاء في مرحلة تالية بعد هذه الفترة، والحق يذكر، أن تعلّم الحروف قد ألفناه بالكُتّاب قبل اللّيكولْ، فقد جرى العرف التواتي، أن الطفل يدخل الكُتّاب عند بلوغه سن الرابعة، ولم يكن (أقَرْبيشْ) يشبع فضولنا، وإن كان هذا الفضول الذي توسمناه في البداية من اللّيكولْ، لم يكن معرفيا في الحقيقة، بقدر ما هو محاولة اكتشاف عوالم جديدة عن بيئتنا، فكان الأطفال الذين يكبروننا يجودون علينا بقليل من خبز الكوشة، الذي كانوا يأتون به من المطعم المدرسي بمنزل عمي سيد أحمد أبّا جلول رحمه الله. فقد كان عمي سيد أحمد أبّا جلول، صاحب أفضال كثيرة على القصر وساكنته، فإليه يهرع الناس في حلاقة رؤوسهم، وخياطة ملابسهم، وتدبير أمورهم الدنيوية وما يسبق الأخروية، كتخييط كفن الميت، فقد كان هذا الرجل شخصا محبوبا، أحسبه مربوع القامة، يتميّز بدورة من عمامته على رقبته، صاحب دعابة وفرجة، وقد أخذ على عاتقه القيام بمهام طبّاخ المدرسة، فخصّص بيته لذلك، وقد وهبه الله زوجة صبورة، إذ لا يعرف باب بيته القفل، كما أن بيته كان مجلسا محبّبا للأطفال والشباب والشيوخ. كنتُ استسرع الأيام حتى يحين موعد دخولي للّيكولْ، حتى يفرد لي عمّي جلول قطعتي من خبز الكوشة، لقد كنا نملّ أكل خبز القمح البلدي وكسرته، وكان يأتينا خبز الكوشة ناعما مستلذا، له رائحة تسحرنا من عشرات الأمتار.. هكذا مرّت شهور الصيف بطيئة قانطة، حتى جاء الخريف، فأبلغني أخي الأكبر الحاج النّاجم رحمه الله، وقد كان من الرعيل الأول من معلمي المنطقة، أني معنيّ بالدخول للسنة الأولى، عند ابن عمتي الحاج سالم النعناع رحمه الله، أذكر ذلك الصباح الأول ليوم دخولي للّيكولْ، ها أنا أخرج باكرا من قصبتنا، وأسلك ساحة أولاد ابراهيم، التي أسمع في زاويتها العلوية، هدير شلال ساقية فقّارة (حاجّة مينة)، لأنزوي بعدها شرقا، نحو زقاق (أتْهالَة)، المؤدي للحدب الفوقاني، أذكر جيدا أننا في ذلك الصباح السعيد، اصطففنا أما القسم الاسمنتي الوحيد بالقصر، وكنا أول دفعة تدشنه في تلك السنة، أمرنا الحاج سالم النعناع بالدخول فدخلنا، وجلسنا على الطاولات الخشبية، وأرجلنا لا تكاد تبلغ الأرض، أشعر بهزها وبالحيز الباقي بينها وبين قاعدة الأرض، كما لو أنه بالأمس القريب فقط.. السبورة، المصطبة، الطباشير، المحبرة، قارورة الحبر، الريشة، الخزانة في آخر القسم.... أشياء كثيرة كنا نسمع بها، نلحظها ونراها؛ غير أن هذا وغيره، لم يكن يشبع فضولنا، أكثر من انتظار ساعة الخروج، والهرولة نحو المطعم المدرسي بمنزل عمي سيد أحمد أبّاجلول، ومعانقة القطعة المعشوقة من الخبز الباريسي، فما إن نصل فم البَرْجَة عند حائط رحمونة، وننعطف يسرة، حتى تبدأ رائحة اللّوبيا تدغدغ أنوفنا، فنعبر الزقاق المار على دار عمي الزين رحمه الله، لنجد عمي أبّاجلول قد أعدّ لنا الصحون الزجاجية برحبة بيته، فنجلس ونعب ما فيها بسرعة عبر نغمات شجية لحركة الملاعق المعدنية، بيد أني بعد مدّة اكتشفت أن قطع الخبز، تتفاوت في أهميتها وجلال قدرها، فلم تكن القطع الوسطى من الخبز الباريسي تعدل عندي شيئا، فقد كنت أتودّد وأتوسّل لعمي أبّاجلول أن يفرد لي القطعة التي تكون في نهاية الخبزة من الجهتين، والتي كنا نصطلح عليها (البوتوتْ)، بحكم أنها تفيد كثيرا في حفرها وأكل لبّها وتعبئته بالسردين أو مرق اللّوبيا أو الحمص أو العدس.. المجد لك يا خبز الكوشة.. طول العمر لك يا معلمي إبراهيم البشاري إن كنت حيا ترزق.. الرحمة يا عمي أبّاجلول، ويا أخي الحاج النّاجم، ويا ابن عمتي الحاج سالم النعناع.. بكم دخلنا للّيكولْ وتعلّمنا.. ونجونا من خدعة المَنْكولْ..