على غرار المناطق الأخرى من الوطن، سجّل الغرب الجزائري خروج مسيرات وطنية تلبية لنداء القوى الوطنية بمناسبة عيد نصر الحلفاء يوم 8 ماي 1945، تعلّقا بالآمال في المستجدّات التي أثارتها نهاية الحرب العالمية الثانية. على خلاف البعد الإبادي الذي عرفته مسيرات الشرق الجزائري، فإنّ مثيلاتها بالغرب تمّت بسلام ماعدا أحداث "وهران" و«سعيدة". ومنه يطرح التّساؤل، لماذا كان هذا الاختلاف في التعامل؟ وماذا كانت انعكاسات هذا الحدث على القوى السّياسية المتواجدة. 1- القضية الوطنية بعد حلول الحلفاء بالجزائر: مع نهاية الحرب العالمية الثانية وحلول الحلفاء بالجزائر، اتّجهت الحركة الوطنية الجزائرية في اتجاه التصلّب .تجسّد ذلك من خلال "الرسالة الموجّهة إلى السلطات المسؤولة "في 02/12/1942 من قبل "فرحات عبّاس" و«ممثّلين عن المسلمين". تضمّن النّصّ توقيف مشاركة الأهالي في مجهود الحرب على قبول قيام جمعية جزائرية محضة تتكفّل "بتصوّر قانون أساسي سياسي، اجتماعي واقتصادي يخوّل للجزائريين الإدراك بحقوقهم". بعد شهور، في 31/3/1943، يسلّم فرحات عباس للحاكم العام نصّا جديدا: "بيان الشعب الجزائري" يطالب فيه على الفور بإدانة وإلغاء الاستعمار، تطبيق حقّ الشعوب في تقرير المصير لكل البلدان، اعتماد دستور خاص بالجزائر، يقرنه "بملحق" في 26/5/1943. مطالب تتباين في تصلّبها مع مطالب نفس الاتجاه الإعتدالي الذي تميّز به خلال عقد الثلاثينات بنظرته الإصلاحية الاندماجية. جوابا على هذه المطالب، اقتصرت "اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني" وهي عبارة عن حكومة "فرنسا الحرّة" الائتلافية من الاشتراكيين، شيوعيين و ديغوليّين، اتخذت الجزائر عاصمة لها، ولمقتضيات الحرب، من أن "تغري" أكثر للاندفاع للحرب، في أن تملي على الجنيرال" "دي غول" "قراره في 12/12/1943" بمنح لفائدة عشرات الآلاف من المسلمين الفرنسيين بالجزائر حقّهم الكامل كمواطنين"، قنّنها مرسوم 7/3/1944. معتمدا بذلك وموسّعا إيّاه مشروع بلوم-فيوليت الاندماجي لما قبل الحرب والذي لم يطبّق قطّ. لهذا الإجراء، صفّق له التّيار اليساري. من حيث أن الحزب الشيوعي الفرنسي اعتبر المرسوم "اتجاها إيجابيا" يتطابق وغايته السياسية المتطلّعة إلى اندماج دائم للمستعمرات بالميتروبول عن طريق "اندماج سياسي حقيقي وصادق". بينما رآه الحزب الشيوعي الجزائري" كتقدّم عظيم" و«خطوة إلى الأمام يثني لها كل الديمقراطيون". أمّا بالنسبة "للمواطنة الجزائرية" عند هؤلاء الممثلين، فإنّه " يمكن طرحها الآن مادام أن الجزائر تحتضن في طيّاتها عدّة عناصر (أوربيين ويهود) تتصاهر لتشكّل غدا ميلاد شعب جديد: هو الشعب الجزائري". مازلنا في أطروحة "موريس طوريس". بالنّسبة للتيّار الوطني، قوبل المرسوم بالرفض القاطع والشّامل حتّى من قبل المعتدلين (على اعتبار أن فرحات عباس عاد يطالب بجمهورية جزائرية مستقلة مرتبطة بالجمهورية الفرنسية). الأمر الذي دفع "حزب الشعب الجزائري" (السّرّي)، أصحاب البيان وجمعية العلماء إلى الرّدّ على المرسوم بتشكيل "جمعية أحباب البيان والحريّة" في 14/3/1944. كانت هذه المحاولة الجبهوية الثانية بعد المؤتمر الإسلامي لسنة 1936. بعد سنة من نشأتها، تعقد الجبهة أوّل مؤتمرها في مارس 1945. في غضون هذه المهلة، عرفت الجمعية إشعاعا سريعا في تأثيرها وحجمها تجاوز تعدادها 500 ألف عضو. وبينما انطلقت بهيمنة الاتجاه الإصلاحي فيها، سرعان ما ستميل الكفّة لصالح القاعدة والقيادة الثّورية المستمدّة من حزب الشعب الجزائري، بدلالة الشعارات المرفوعة في المؤتمر تعبيرا على التحوّل السياسي. بدل المطالبة "بجمهورية جزائرية فيدرالية" لفرحات عبّاس، حلّت محلّها المطالبة بالإفراج عن "ميصالي حاج زعيم الشعب الجزائري بدون منازع" بصفة فورية ودون شروط. حلّت محلّها المطالبة بقيام "برلمان وحكومة جزائرية" دون أيّ التزام مع فرنسا. فقد ظهر جليّا خلال هذا المؤتمر، يكتب "بوضياف"، "بأنّ توجّه حزب الشعب كان الغالب وأنّ المطالبة بالاستقلال قد تأكّد بقوّة". من جهة أخرى، فإنّ الأحداث الدولية قد أسهمت في هذا التصّلب: التحضيرات لأوّل اجتماع للجامعة العربية (22/3/1945 بالقاهرة)، التحضيرات لندوة "سان فرانسيسكو" ل 25/4/1945 للمصادقة على الميثاق الأطلسي، وأخيرا مع نهاية الحرب ، فإن القوى الغالبة (الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي)، ولأسباب متعارضة، كانت تساند كلّ منها مبدأ "حقّ الشعوب في تقرير مصيرها". تلكم كانت المعطيات التي مهّدت لأحداث 8 ماي 1945 ومواقف القوى المتواجدة. المظاهرات الوطنية لأوّل ماي و8 ماي 1945 بالغرب الجزائري: تجاه شعار "الإفراج على مصالي الحاج"، أجابته السلطات الاستعمارية مع نهاية شهر أفريل بنفي "الزّعيم" إلى برازافيل. بهذه القرية الصغيرة، قصر الشّلالة، أين كان "ميصالي" تحت الإقامة الجيرية، سجّلت بها مظاهرات في نهاية أفريل.كان ذلك سببا من بين الأسباب التي دعت "حزب الشعب الجزائري "لإقرار انتهاز التّظاهرات الرسمية المرتقبة لعيد العمّال وحفل النصر للتّأكيد على حيوية الحسّ الوطني الجزائري. هكذا، يوم 1/ماي/1945، بجانب التّظاهرات النقابية التقليدية، تنظّم بالغرب الجزائري مسيرات وطنية بكل من وهران، مستغانم، غليزانوتلمسان، بهتافات: "أفرجوا عن ميصالي". نداء نسخته اللاّفتات والألواح بالعربية والفرنسية حملتها الجموع الجزائرية المدعوة لهذا الشّأن، منشدة النّشيد الوطني "الوطن". إذا ما جرت مظاهرات مستغانم (1.000 متظاهر)، تلمسان (200) وغليزان (30) دون حدث يذكر بصفة عامة وافترقت بسرعة، فإن مظاهرة "وهران" أسفرت على مشادّات. انطلقت المسيرة من الأحياء الشعبية (الحمري والمدينة الجديدة) لتنتهي بوقوع مشادّات عنيفة ما بين المتظاهرين (1.000) وقوّات الأمن الاستعماري بوسط المدينة الأوربية (ساحة Sébastopol، طريق الجنيرال Cerez وشارع Lescur). الأمر الذي حتّم على السلطات الاستعمارية، بعد أن نجحت بصعوبة في تشتيت المتظاهرين، من إقامة حصار عسكري من خمس دبّابات ومجموعتين من الحرس المتنقّل إلى غاية ساعات من اللّيل بالمواقع "الحسّاسة" (الحمري والمدينة الجديدة) أين كان يحوم عليها "غليان" شعبي. كانت حصيلة هذه الأحداث تسجيل من الطرف الاستعماري: جرح رئيس البلدية، ضابط شرطة، 6 حرّاس وضابط عسكري. من طرف المتظاهرين: قتيل بالرّصاص، عشرات الجرحى والقبض على 11 متظاهر تتراوح أعمارهم ما بين 17 و37 سنة من شغيلة، حرفيين وتجّار صغار. بمدينة سعيدة، يوم 2 ماي وبمناسبة استدعاء الجزائريين للتجنيد الإجباري، جاب المجنّدون المدينة بصراخ" أفرجوا على ميصالي". مع حفل النّصر، يوم 8 ماي 1945، تكرّرت المظاهرات الوطنية بسيدي بلعباس من خلال مسيرة أدهشت أعوان الأمن أنفسهم بحسن تنظيمها وانضباطها. 4.000 متظاهر متبوعين ب 600 امرأة جابوا الشوارع الرئيسية للمدينة. حاملين لافتات بشعارات "التساوي في الحقوق"، "أحباب البيان" تسندها زغاريد النّساء. بمدينة مستغانم، 800 متظاهر تسير كذلك بالطرقات بلافتات (العربية والفرنسية) تنادي ب "أحباب البيان"، "العفو الشامل"، "لتسقط الفاشية والإمبريالية"، على إثرها يفترق المتظاهرون دون حدث بعد وضع باقة ورد على منصت الأموات. بتلمسان، تشهد المدينة مسيرة تحوي 2.000 جزائري تحت تأطير أحباب البيان والحرية، وتنادي بالنشيد الوطني ورمز أصبع الشّهادة مرفوعا. العبرة من الملاحظة في التباين بين أحداث الشرق والغرب الجزائري: - من مجريات هذه المظاهرات، ماذا يمكن أن نلاحظه؟ 1- ماعدا البعد الذي اتخذته أحداث الشرق من خلال المجزرة التي أثارتها، لا شيء يشير في مجرياتها بنيّة أو إرادة انتفاضية. في أغلب المدن المعنية، تمّت المسيرات في حرس على النّظام والانضباط لم يفت السلطات الاستعمارية من تسجيله، كما أنّها عبّرت على استعداد للانسحاب بمجرّد بلوغ المسيرة مرماها. هذه الملاحظة تتطابق وتلك التي خلص لها أعوان الاستخبارات الاستعمارية التابعة ل "لمركز الاستعلام والدّراسات" (CIE) الذين في تقريرهم الشهري أشاروا فيه على أنّه: "بصفة خاصة فإن الأوساط الواعية من الجزائريين، الوطنيين منهم والمطالبين، مثل أحباب البيان والحرية، العلماء المصلحين وحزب الشعب الجزائري، يقينا منهم بأن قرارات هامّة، تبعا لنهاية الحرب، هي على وشك الاتخاذ فيما يعنيهم من طرف مجموع الحلفاء، على صعيد التنظيم العالمي للسلام. ارتأوا بأن مطالبهم قد تبرز أفضل للعيان وتأخذ في الحسبان إذا ما جاهرت بنشاطها. وعليه، فقد سعوا إلى لفت انتباه الحكومة الفرنسية إليهم وبخاصة الدول الحليفة الممثّلة في ندوة سان-فرانسيسكو التي علّقوا عليها كل أمالهم". 2- لا شيء يشير بأن المظاهرات كانت مظاهرات جوع وبطن، فإن طابعها السياسي قد برز بكل وضوح من خلال الشعارات المرفوعة. 3- غير أنّ، على إثر البعد المأساوي الذي عرفته أحداث الشرق الجزائري واستجابة لنداء الانتفاضة العامة الذي دعا لها حزب الشعب الجزائري في 18/ماي 1945 ردّا على ضراوة القمع الاستعماري، فإن الطابع الانتفاضي برز من خلال حالة "سعيدة". في هذه المدينة ، ردّا على أمر الانتفاضة المعلن من قبل حزب الشعب الجزائري في 18/5/1945، نهض مناضلوه بسعيدة باعتماد العمل المباشر، بحرق البلدية وقطع الأسلاك الهاتفية وتحضير المتفجّرات. وفي لحظة الانتقال إلى الثورة المفتوحة، اكتشف أمرها وتمّ إجهاضها. عرفت المبادرة قمعا استعماريا بالقبض على عشرات الشباب أقلّ من 25 سنة عمرا ومحاكمتهم أمام المحكمة العسكرية بوهران وإصدار الحكم بالإعدام على (6) منهم والأشغال الشّاقة على تسعة (9) وإقامة حالة الطوارئ على مدينة سعيدة. ما هي العوامل التي كانت وراء التباين فيما بين التعامل الإبادي الذي عرفه الشرق الجزائري والطابع السلمي الذي مرّت فيه مظاهرات الغرب الجزائري؟ فرضية تفسيرية اعتمدها مقرّرو "المركز الاستعلامي والدراسات "الاستعماري في ماي 1945 مفادها: «إذا ما لم تؤدّ المشادّات الوطنية الجزائرية لأوّل ماي في عمالة وهران إلى الأحداث الدّموية الواسعة بمثل ما يؤسف عليه في الشرق الجزائري، لربّما مردّ ذلك إلى التباين العرقي للسكّان المتواجدين ولكن كذلك إلى سرعة التّدخّل الفعّال للقوات التي توصّلت بسرعة إلى السّيطرة على الحركة في بدايتها". في الإشارة إلى الاختلاف العرقي، فإنّ أصحاب التقرير يلفتون النّظر إلى عامل الاستيطان الأوربي الذي يميّز الغرب عن الشرق. بالفعل، بحكمها منطقة تعدّ من أغنى المناطق الزراعية بالجزائر، فإنّ توزيع المعمّرين قد امتثل لهذه الخاصية. فقد تميّز الغرب بكثافة سكانية زراعية أوروبية ظلّت متراصّة. فإنّ مدنه الدّاخلية (مستغانم، سيدي بلعباس، تيموشنت...) وكذا تواجد القرى والمراكز الاستعمارية المتقاربة، مكّنت من الحفاظ على استيطان أوربي بارز وهام لا يظهره الشرق ولا وسط البلاد. هذه الخلاصة إذا ما اعتمدت للتفسير، قد أكّدتها خلاصة J. Bordas في دراسة له سنة 1958 مفادها أن تعداد الجزائريين بالغرب أضعف من الشرق والوسط: بالغرب تتراوح النّسبة بأربع (4) جزائريين مقابل معمّر واحد، بالوسط 6 مقابل 1 وبالشرق 16 مقابل 1. هذا التباين الديموغرافي الذي يطبع التواجد الاستعماري بالشرق قد يكون وراء التأثير النفسي على سلوك كل من الجزائريين والمعمّرين في الإحساس بالقوّة عند البعض وانعدام الأمن عند الآخرين. في شهادته، يذكر "أمحمد يوسفي" بأنّه قبل ستة (6) أشهر، كان حاكم الولاية بقسنطينة « LESTRADE Carbonnel » قد شكّل ببورج بوعريريج ميليشياته وعيّن قوّادها سرّا، وأنّ السّلطات المدينة والعسكرية كانت قد وزّعت السلاح على السّكان الأوربيين في الأرياف. هذا اللّجوء إلى تشكيل ميليشيات لم يظهر بالغرب الجزائري. إبادة أهالي الشرق الجزائري وموقف القوى السياسية المتواجدة: كما تبيّن كانت مناسبة احتفال الحلفاء بالنصر على الفاشية/النازية مناسبة انتهزتها الحركة الوطنية تحت ريادة حزب الشعب الجزائري للتعبير عن تطلّعاتها في الأماني التي أفرزتها مستجدّات نهاية الحرب العالمية باستقطاب الساحة الدولية وراء قوّتين دولتين: الولاياتالمتحدةالأمريكية والإتحاد السوفياتي اللّتان تعلّقتا، ولو لخلفيات متعارضة، بمبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. المبدأ الذي كان على هيئة الأمم المتّحدة اعتماده وهي على وشك التشكّل. انتهاز فرصة بتنظيم مسيرات وطنية مسالمة الطابع مبدئيا، غير أن على خلاف ما كان متوقّعا، قوبلت هذه المسيرات في الشرق الجزائري بالقمع الرهيب والتقتيل الجماعي للأهالي الجزائرية اتخذ بعد الإبادة راح ضحيّتها آلاف الضحايا من العزّل في المدن والمداشير. كانت هذه المعاملة جوابا عنيفا على مثل هذه التطلّعات من قبل الدولة الفرنسية وأنصار الاستعمار وجوابا كذلك للقوى الدولية التي تناصر حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. ما اقترف في حقّ الأهالي الجزائرية لم تنفرد به حالة الجزائر، نفس المعاملة انتهجتها فرنسا الاستعمارية في حق شعوبها المستعمرة هنا وهناك، بالمغرب الأقصى (أحداث فاس 1944) بمدغشقر (أزيد من 80.000 قتيل في 1947)، في الهند الصينية (حرب الفيتينام 1946) نفس السّياسة ونفس النهج في تسيير المستعمرات والتصدّي لحركاتها الوطنية. في الوقت الذي وقفت فيه بريطانية الاستعمارية بانتهاج سياسية اللّين، المرونة والحذق السياسي البعيد المدى بإتّباع سياسة لتصفية الاستعمار وفقا لحالة بحالة، ما مكّنها من المحافظة على روابط مستقبلية مع مستعمراتها المتحرّرة في إطار "الكامنويلث". وإذا ما لم يكن من المفاجئ أن نرى من فرنسا الاستعمارية تمسّكها بهذا النهج الاستعماري المطلق منذ أن ترشحّت على الاستعمار، ونرى اليمين الاستعماري في الجزائر الذي ناصر النهج الفاشي فيها إبّان الحرب العالمية الثانية وقبلها يقدم على التصفية العرقية تثبيتا لوجوده الدائم بالجزائر، فإن الأمر يحيّرنا لمّا نقف على موقف اليسار الفرنسي من هذه الأحداث. وهو الذي يدّعي مناصرته لصف المستضعفين والحركات الوطنية في المستعمرات. خاصة وأنّ هذا اليسار كان يحكم، وقت الأحداث، حكم فرنسا بريادة الحزب الشيوعي الفرنسي ما بين 1944-1947. فقد وقف "الحزب الشيوعي الفرنسي" ومعه "الحزب الشيوعي الجزائري" موقف المؤيّد للمحرقة والمتورّط في إنجازها. مبرّرا إيّاها بأنّ ما كان وراء مأساتها تآمر كل من حزب الشعب الجزائري وأسياد الاستعمار. واضعا في نفس الكفّة كل من الطرف الوطني مع الطرف الاستعماري، لإرضاء رؤياه الإيديولوجية في مفهوم الثورة القائمة على النظرة "الأوربية المركزية" على أن لا تحرّر بدونه وفقا لشعار "فرنسا الجديدة" المرفوع آنذاك. مستتراً على أنّ في حقيقة الأمر كان مصلحة فرنسا تعلو في نظره أيّ اعتبار ينجم من مستضعفين للقهر الفرنسي. انعكس هذا الموقف على الحزب الشيوعي الجزائري بهزّة صدّعت صفوفه لم يأت عليها إلاّ بالاعتراف الصريح على هذا الانزلاق السياسي في 1946 وضرورة تقويم مساره ضمن الحركة الوطنية الجزائرية التي يدّعي عضويته فيها. ورغم محاولته إضفاء طابع الجزأرة على هياكله وتوجّهه السياسي فيما بعد، سوف يكرّر نفس الموقف غداة اندلاع الثّورة الجزائرية في 1954 بالتّشكيك فيها والانعزال عن قوّاتها. أمّا بالنسبة للحزب الشيوعي الفرنسي، نفس الموقف يتّخذه ثانية بالمناسبة مع مصادقته على "كامل السلطات" المساندة للاشتراكي "قي موليه" (Guy Mollet) في 1956 للتصدّي للثورة الجزائرية، ما سيثير إحباطا عميقا في صفوف المناضلين الشيوعيين الصادقين بالانسحاب الجماعي منه. تجاه هذا الموقف المحيّر، رآه حزب الشعب الجزائري على أن اليسار الفرنسي، ولو أنّه يتصوّر المستقبل الاستعماري على خلاف اليمين الاستعماري، هذا لم يمنعه من الاصطفاف إلى جانب المعمرين باستنكار المظاهرات الوطنية لماي 1945 وإجهاض تعبيرها التحرّري. كان ذلك من خلال منشور سرّي لحزب الشعب الجزائري ينصّ على أنّ "التّحالف المقدّس قد تمّ تحقيقه وقتما يتعلّق الأمر باتهام العربي. حتى اشتراكيونا، حتى شيوعيونا الإمبرياليين !إنّ اليسار، ولو أنّه أقلّ دناءة من اليمين، لم يتردّد في المطالبة بالقمع الرهيب والإشهار بسكّينه المديم للوجود، للهيمنة، لسيادة فرنسا على شعبنا". ^ خلاصة: قد مثّلت مجزرة ماي 1945 الشرخ الذي عمّق من الهوة ما بين المجموعة الجزائرية ومجموعة المعمّرين ما انفكّت تتّسع بعد ذلك لتسفر في آخر المطاف على اندلاع الحرب التحريرية.