بقلم: عبد القادر حمداوي* لقد كانت حادثة 08 ماي 1945 ضد الوجود الفرنسي في بلادنا، وكانت مجزرة دبرها الفرنسيون ضد الجزائريين الأبرياء، بينما كانوا يحتفلون بعيد انتصار الحلفاء الذين كان يرمز إلى انتصار الحرية والديمقراطية. هل هي مؤامرة دبرها الفرنسيون الحاقدون على الشعب الجزائري الذي أصبح يتطلع إلى الحرية والاستقلال؟ أم ثورة ضد الوجود الفرنسي؟ إن الجواب عن هذين السؤالين مازال يكتنفه الغموض إلى حد ما رغم ما كتب عن هذا الموضوع من مقالات وفصول إضافية، فبعض الكتاب يسمي ما وقع سنة 1945 حادثة والبعض يعتبره انتفاضة في حين يسميه البعض الآخر ثورة والواقع أنه لا هذا ولا ذاك، ولكنها مؤامرة دبرتها السلطات الاستعمارية بالتعاون مع المعمرين الحاقدين على الشعب الجزائري، الذي أصبح يرنو إلى الحرية والاستقلال. ولكي نعرف أصول هذه المؤامرة وأسبابها الحقيقية يمكننا الرجوع إالى سنة 1943 عندما وجهت النخبة الجزائرية في شهر فيفري مذكرة إلى الجنرال ديغول وإلى الرئيس روزفلت والإنجليزي تشرشل، وفي المذكرة التي عرفت باسم بيان الشعب الجزائري الذي تضمن المناداة بإنشاء حكومة جزائرية منبثقة من الشعب وبدستور وببرلمان جزائريين وبتقرير المصير لكل الشعوب الصغيرة والكبيرة وبذلك أخذت الحركة الوطنية منعطفا جديدا في الطريق النضال الوطني. وأصبح الشعب الجزائري يطالب بالحقوق السياسية الوطنية وصار الشباب الجزائري أكثر تفهما وإخلاصا لمبادئ الوطنية ليس فقط من أجل المشاركة في الحياة السياسية مع المجموعة الفرنسية ولكن من أجل الاستقلال الوطني. وهذا الاتجاه قد ظهر في البيان وسيعبر عن نفسه بوضوح أكثر في تصريحات حرب أحباب البيان والحرية الذي سيكون له دور هام في مظاهرات 08 ماي1945 والذي تأسس يوم 14 مارس 1944 أي بعد صدور أمر اللجنة الفرنسية التي رفضت بعنف مطالب الشعب الجزائري ومطامحه في تقرير مصيره بنفسه والتي لم تترك للمسلمين المعتدلين في الحركة الوطنية مجالا آخر سوى خوض الكفاح بجانب الجماهير الشعبية وكانت الظروف مناسبة على الصعيدين المحلي والخارجي وتسمح فعليا بإنشاء تجمع وطني كبير بعد تنازلات واتفاقات بين التيارات الوطنية الأساسية الثلاثة: حزب الشعب الجزائري والعلماء المنتخبين من أنصار عباس فرحات، وهكذا تأسست حركة أحباب البيان والحرية، فكانت عبارة عن جمعية مؤلفة من متحالفين أكثر منها حزبا سياسيا متماسك الإيديولوجية والعضوية وكان السيد فرحات عباس هو كاتبها العام، وفي نفس الوقت المسؤول السياسي عن جريدة المساواة légalité التي كانت تصدر بالفرنسية وتعبر عن مبادئ الحزب الجديد وقد تشجع أعضاؤها بالوجود الأمريكي والإنجليزي في الجزائر مستغلين الضعف الذي كانت فرنسا تعاني منه وتشجع الشعب الجزائري للتضحيات وقد انضم في فترة قصيرة عدد كبير إلى حركة الأصدقاء، حيث بلغ عددهم خمسمائة ألف شخص وحوالي 165 فرع في جميع أنحاء البلاد وفي هذه الآونة تم عقد مؤتمر إقليمي لحركة أحباب البيان الحرية. انعقد بقسنطينة في يوم 22 ماي 1944 وقد رأى المؤتمرون بأن حرية التعبير الفكري قد اضطهدت خلال حكم نظام فاشي، فقد طلب المؤتمرون بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وطلبوا بإرجاع حق التنقل للشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء، اعتبر المؤتمرون تعسف الشرطة ضده وحرية الفكر وممارسة العقائد الدينية الإسلامية .....الخ. طالب المؤتمر بالنقاط التالية 7 حرية التفكير وحرية الرأي. 7 حرية الصحافة باللغتين (العربية والفرنسية). 7 حرية الدين وتعليم اللغة العربية. وفي شهر جانفي 1945 عقد الأصدقاء مؤتمرهم بالجزائر وقد أسفر عن المطالبة بإلغاء نظام البلديات المختلطة، العسكري في الجنوب وبجعل اللغة العربية لغة رسمية، وخلال شهر فيفري 1945 ألصق منشور على الجدران في مدن الجزائر وجاء فيه: أيها الإخوة المسلمون إن حياة بلادكم في خطر فالاستعمار قد خربها ماديا ومعنويا، فاللغة العربية مضطهدة منذ الاحتلال والسلام أصبح محل السخرية، وإن كرامتنا لا يضمن لها الاحترام إلا في إطار كيان الجزائر أمام الجنرال (كاتروا) الذي كان حاكما عاما للجزائر أثناء صدور البيان (أصدقاء البيان والحرية) فقد نادى بضرورة القضاء على هذه العاصفة يقصد بذلك الحركة الوطنية عموما والحركة الجديدة على وجه الخصوص. وهكذا يلاحظ المرء أن الحركة الوطنية الجزائرية قد دخلت في مرحلة باتحادها في جمعية جديدة لها برنامج موحد وأهداف مشتركة بعدما كانت قبل الحرب العالمية الثانية شعبا وأحزابا متفرقة وأكبر دليل على ذلك أخذ الوفاق الوطني الجديد هو التحول الجذري في سياسة عباس الذي ولأول مرة قام بإنشاء حكومة جزائرية وبرلمان جزائري، ويلاحظ المرء أن عبارة الاستقلال تقرأ في كل مواد القانون الأساسي أحباب البيان والحرية، حيث صرحوا أن هذه الحركة ستكشف عن مناورات القوى الإقطاعيين، وكل من لديه مصلحة المناداة بالمساواة والحق في أفضل رقي الحياة الوطنية للشعب الجزائري وصفوة القول أن حركة أصدقاء البيان والحرية قد جاءت كنتيجة للظروف الجدية التي طرأت على العالم بصفة عامة والجزائر بصفة خاصة. حادثة قصر الشلالة في 18 أفريل 1945 ذهب والي الجزائر آنذاك لوي بيري إلى الشلالة لحضور ندوة الأعشاب وهي بمثابة الملتقى الذي يضم إطارات الحكومة في الهضاب وملاك المواشي ليتدارسوا مسألة تربية الأغنام والعشب وكيفية نقل الماشية من الهضاب إلى التل وتقرر أن يلقي أنصار مصالي الحاج خطبة في هذه الندوة وقد اختار من أتباعه كان من بينهم سعد دحلب الذي ألقى خطابا طالب فيه الاستقلال وهذا بعدما كان قد كلفه حزب الشعب الجزائري، وبينما كان الحاضرون يتكلمون عن الأغنام وتربيتها والأعشاب أثار هذا استغراب الحاضرين وقدم الرسالة إلى الوالي بيري فأعطى الأمر للمخازينة فقبضت عليهم ووضعتهم في شاحنة (بلاتو) لكن الأهالي احتجوا على ذلك فعمت الفوضى، هرب المحتجزون من الساحة فوقعت مشادات عنيفة بين رجال الدرك والأهالي ففر الوالي في سيارته فأوقفته جماعة من الأهالي وفتشوها ظنا منهم أن المحتجزين موجودون بالسيارة وما هي إلا ساعات قليلة حتى تفاجأ الجميع بنزول المظليين الفرنسيين وحاصروا المنطقة وكانت العناصر الفارة قد وصلت إلى قرية قريبة من الشلالة وبعد يومين بدأت الحالة تشتد خاصة ما بين 20، 22 أفريل، حيث ألقت القوات الاستعمارية القبض على مصالي الحاج الذي كان منفيا، وحوّلوه إلى عين صالح ثم إلى برازافيل، ولما سمع أنصاره الأربعة سلموا أنفسهم وأصبح عددهم 24 تابعين لحزب الشعب فنقل 15 منهم إلى سجن البليدة و 09 إلى سجن الحراش. وفي 08 ماي رحلوا إلى وهران ثم إلى بوسيف وتعد هذه الانتفاضة الأولى من نوعها في الناحية كلها، ويقول المجاهد سعد دحلب أحداث 18 أفريل هي التي أنجبت مظاهرات أول ماي و 8 ماي 1945. في أول ماي من سنة 1945 بمناسبة عيد العمال وسقوط مدينة برلين في يد الحلفاء من جهة وأحداث 18 أفريل بقصر الشلالة من جهة أخرى، قررت اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري بالعاصمة تنظيم تظاهرات ضخمة وطلبت القيادة المحلية لحركة أحباب البيان والحرية من الوالي الرخصة لتنظيم الاستعراض بمناسبة عيد العمال من باب الواد ليلتحق بموكب الكنفدرالية العامة للعمال والحزب الشيوعي بالبريد المركزي، وصل الموكب المتكون من 20 ألف شخص إلى شارع (ايزلي) العربي بن مهيدي حاليا على الساعة الخامسة والنصف مساء فوجدوا الجنود الفرنسيين في انتظارهم فأطلقوا النار على المتظاهرين فجرحوا محمد الحفاف الذي توفي فيما بعد متأثرا بجروحه، كما سقط 3 من مناضلين حزب الشعب عبد القادر زبار، محمد لعميش وأحمد بوغالم ، كما توفي 7 آخرين في الأيام الموالية متأثرين بجروحهم وسرح حوالي 19 شخصا خيم عليها الهلع والفوضى وعدم وقوع حوادث عنيفة وأحيانا دموية ميزت مظاهرات الفاتح ماي التي انتظمت في وهرانوبجايةوقالمة. ويقول عميد المؤرخين سعد الله رحمه الله: أصول هذه الحادثة تعود إلى إنشاء حركة أحباب البيان والحرية في 14 مارس 1944 ومن تلا ذلك من نشاط ودعاية ويقظة فقد أدى ذلك إلى اتصالات علنية وسرية بين قادة الحركة الوطنية وإلى توطين جبهة متحدة للوصول إلى تحقيق أهداف البيان المعلنة، وهذا النشاط غير المعتاد في نظر الفرنسيين قد أغضبهم وأثار مخاوفهم فحاولوا وقفه عن طريق اللجان التي تنظر في الإصلاح والوعود. مواجهة في الحين لعدة أسباب منها: 7 ضعفهم العسكري والسياسي في عين الجزائريين. 7 انشغالهم بتحرير بلادهم ( فرنسا) من براثن الألمان. 7 عدم اطمئنانهم إلى رد فعل الحلفاء. ولذلك كتم الفرنسيون أفواههم وظلوا يتحينون الفرصة بالحركة الوطنية الجزائرية للأخذ في التحدي والتصعيد. أسباب المظاهرات: 7 نضج الحركة الوطنية خاصة أحباب البيان والحرية. 7 تنامي الوعي لدى الشعب الجزائري. 7 تذكير المجتمع الدولي بطروحاته السياسية (ميثاق الأطلسي 41 وميثاق الجامعة العربية 45 وميثاق الأممالمتحدة) التي تدعو إلى حق تقرير المصير واحترام حقوق الإنسان. العوامل والحيثيات توحي بأن الاستعمار له ضلع في تدبير الحوادث الدامية ليوم الثامن من ماي 1945 وقد أوردها فرحات عباس ليثبت أن أنصاره في حركة أحباب البيان والحرية لا علم لهم بذلك وليس لهم ضلع في الحوادث، وجاء في بعض النصوص والمقالات التي وردت في الجريدة الرسمية الفرنسية في العدديين 6 و 7 الصادرتين يومي الأربعاء والخميس 11 و 12 جويلية 1945 والتي تناولتها بعض الصحف اليومية مثل جريدة كومبا وجريدة ليبرتي وغيرها. كان الانتقال الذي قمنا به دونما ريب ضربة قاضية لصداقة الشعب الجزائري والأمة الفرنسية أو بالأحرى على مصالح بلادنا في الجزائر، هذا على أني لا أتكلم على بقية الحكام الجائرين لأن ذلك يستدعي وقتا طويلا . لقد وزع السلاح على جميع الأوروبيين بصورة خاصة منها الأسلحة الخفيفة إلى النساء، كن مسلحات وفي إحدى المدن وبينما كان طفل مسلم صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره يمر في الحديقة العامة فإذا بضابط فرنسي برتبة نقيب (كابتن) يطلق عليه النار فيرديه قتيلا. أولا لم يكن لفرحات عباس وأنصاره داخل حركة أحباب البيان والحرية أي دور في أحداث 8 ماي 1945. ثانيا: ذكر فرحات عباس نفسه أن السلطات الاستعمارية أعطت رخصة للقيام بمظاهرات سلمية لوضع إكليل الزهور على قبر الجندي المجهول وتساءلت لمن إعطيت هذه الرخصة. وقال بأن نائب العام الذي أعطى الرخصة يجهل أو يتجاهل لمن أعطاها ولم يستطع الجواب على السؤال والذي طلب الرخصة طلبها شفويا وليس كتابيا وقال نائب العام إن الذي طلب من أتباع ومسؤولي حركة أحباب البيان والحرية أن كل هذه العوامل والحيثيات توحي بأن السلطات الاستعمارية لها ضلع في تدبير الحوادث الدامية ليوم 8 ماي 1945. شارك سلاح الطيران في القصف (150) طائرة كقنبلة والذي دام 15 يوما وبلغ معدل الغارات 300 غارة وتم تدمير حوالي 45 قرية وبلغ مجموع عدد القتلى في هذا اليوم والأيام التالية من الجزائريين 45 ألف شخص. المدن والقرى والمداشر التي شهدت الانتفاضة سطيف، العلمة، خراطة، قالمة، قسنطينة، الخروب القل، سكيكدة، عنابة، سوق أهراس، أم البواقي، خنشلة، باتنة، تبسة، بسكرة، بجاية، جيجيل البويرة، تيزي وزو، بوسعادة، البرواقية، الجزائر العاصمة، البليدة، شرشال، وهران، سعيدة، سيدي بلعباس، مستغانم، وتيارت. لماذا اختار المعمرون مدينة سطيف بالذات لتكون مسرحا لتلك الحوادث التي عمت كامل مدن الشرق الجزائري، فأجاب بنفسه بالحرف الواحد فمن هذه المجازر ألفت لجنة تحقيق أسندت رئاستها إلى الجنرال تويبر ولكن الجنرال دوفال الذي أشرف على تلك المجازر طلب من هذه اللجنة أن توقف تحقيقا قبل مضي 48 ساعة من تكوينها. إن ارتكاب فرنسا للمجزرة رهيبة هي سياسة العنف والتشريد التي مارستها فرنسا الدعاية التي أطلقها الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية. تصفية الاستعمار: إعلان مبادئ الأطلسي في 14 أوت 1941 للمستعمرات وعودة ديغول ببرازافيل في جانفي 1944 وإعطاء الحكم الذاتي الاجتماع التأسيسي للجامعة العربية والإعداد لمؤتمر فرانسيسكو رفض السلطات الفرنسية بيان الشعب الجزائري لسنة 1943 ومرسوم 07 مارس 1944 الذي أعلنه ديغول نتائج المظاهرات: لقد برهنت الانتفاضة على تلاحم الشعب وتعاونه، لقد عمت الأحقاد والكراهية ضد الاستعمار المتنكر للوعود، الاقتناع بهم، النضال السياسي والتفكير في الكفاح المسلح، الانتفاضة كان لها طابع وطني عام كما كانت نواة لتعبئة ثورة انفجرت عام 1954. فقد كان مصرحا واسعا لمكيدة كبرى هيأها المستعمرون لقتل روح الحرية وفكرة الاستقلال في الشعب الجزائري. استشهد 45 ألف شهيد واعتقل 4560 وحكمت المحاكم العسكرية على 577 شخص بعد سماع الدعوى، وأصدرت 1307 حكم منها 99 بالإعدام و 66 بالأشغال الشاقة مدى الحياة و 329 بالأشغال المخففة والإفراج على البقية وتم تدمير 45 قرية.