عددهم بالعشرات، أمهات، حوامل، رضع، شباب، رجال كهول، شيوخ وعجائز تجدهم يوميا قابعين ينتظرون دورهم لإجراء فحص، أو تطعيم طفل أو إقتلاع ضرس أو تلقيح حامل. إذا كان الفصل صيفا فهم معرضون طيلة مدة »إقامتهم« لشمس حارقة أما إذا كان الموسم شتاء »فتشرب أجسادهم ماء المطر ثم تجففها الريح وترى الأطفال تصطّك أسنانهم من شدة البرد فما بالك برضع لاتزال أعينهم مغمضة وإذا انفتحت فهي معرضة حتما لحبيبات التراب التي تعصف بها الريح. هذا كله في ساحة رحبة من مكان ما وإذا أسعَفك الحظ للدخول للتلقيح فتجد نفسك في دهليز كبير، لا هو مستودع، ولا مخزن، ولا خلية سجن من العهد البائد. في هذا الدهليز الضيّق وُضع مقعدان على الجانبين يتكدس فيهما المنتظرون وعندما تريد المرور فحتما ستُؤدي رجل هذا، وتتخطى الآخر بصعوبة. وحتى في الطابق العلوي يتكرر السيناريو نفسه دون أن تتغيّر التفاصيل، هذا كله وأكثر من هذا يحدث في العيادة المتعددة الخدمات بحي ابن سينا التابعة للمؤسسة العمومية للصحة الجوارية (الغوالم). وهي المعروفة لدى قدماء الحي بمستوصف »الڤليزية«، التسمية التي اشتهرت بها منذ العهد الإستعماري، ولايزال السكان يستعملون هذه الكلمة لنعث الطريق إليها أو توجيه شخص نحوها. ومنذ وقت بعيد تعرف توافدا كبيرا من طرف المواطنين الراغبين في التداوي ويأتونها من كل مكان سواء توفرت لها الإمكانيات أم لم تتوفر. هذه المؤسسة الصحية التي يتوافد عليها سكان ابن سينا وكل الأحياء المجاورة وحتى البعيدة باعتبارها تقع في نقطة التقاء كل وسائل النقل التي تنشط في النسيج الحضري تمر عبرها لدرجة أن كثيرا من المرضى والسكان الذين يصطحبون أطفالهم وفي كثير من الأحيان يتجنبون مراكزهم الصحية ويتكدسون بها مزاحمين بذلك سكان الحي والمسموح لهم بالتداوي وفقا للخارطة الصحية التي ينتمون إليها. استفادت المؤسسة المذكورة من توسيع لهياكل في نفس مكان وجودها لكن هذه الأخيرة صارت مجرد قبر كبير لأسراب الحمام. وعليه فإن الطاقم الطبي يجد نفسه مرغما على مزاولة مهنته في ظروف أقل مايقال عنها أنها كارثية ولا تليق بمجال صحي لأن المواطنين يأتون للتداوي وليس الذهاب بعدوى أو مرض ما قد يكلفهم حياتهم. بساحة المستوصف الكبيرة قالت إحدى الحوامل بأنها من سكان البحيرة الصغيرة، وسابقا وضعت مولودا ذكرا وكلما كان موعد التلقيح لها أو له تتحمل (الإنتظار للمرور إلى مكتب القابلة وإذا كان الفصل شتاء فالجميع يتحمل البرد والمطر، ونفس الشيء ينطبق على كبارالسن حيث صرحت إحداهم أن أبناء الحلال غالبا ما يتكرمون ويمنحونها مكانا للجلوس ثم مكانا للدخول عند الطبيب نظرا لتقدمها في العمر بدورهم الرجال لم يسلموا من هذه الظروف البائسة فينتظرون لساعات في البرد أو الحر إلى أن يحين الموعد. وتجنبا لعناء الإنتظار يأتي البعض في الصباح الباكر للظفر بمكان. الوضع لا يختلف لدى المصابين بالأمراض العقلية الذين يأتون للتداوي أو المراقبة الطبية فهم أيضا يتقاسمون جزءا من الساحة في إنتظار الدخول والظفر بفحص صحي. بعد أن تتشرف بمعرفة ظروف الجالسين والواقفين في طوابير العراء، تقودك رجلاك إلى طابق آخر، وفي الحقيقة هو أرضي لكن يخال لك تحت أرضي لأنه مظلم وعليك أن تنزله بسلاليم وتتوخي الحذر مخافة السقوط فالمكان مضاء بنسبة قليلة جدا وعندما تتكدس النساء عند المدخل تخيّم عتمة. كل الفحوصات، والتلقيحات وماله علاقة بطب الأسنان والمرور عند القابلة تتم في ظروف مزرية جدا لم يجد لها الطاقم الطبي أي حل. فقاعة القابلة حجرة صغيرة جدا وهي في الأصل مكتب يقع عند مدخل السلاليم أي أنه »منطقة عبور« وكثير من النساء يرفضن التعري من أجل فحصهن من طرف القابلات وإذا تم ذلك فلابد من إقفال القاعة بإحكام وتجري القابلة العملية في مدة زمنية قياسية لاتتوفر على أي معيار طبي لأن هذه الأخيرة لا تجد حتى أين تضع معداتها لضيق المكان. وقد إشتكت لنا إحداهن من الوضعية.نفس الشيء يقال عن قاعة طب الأسنان والفحص العام للرجال والنساء سواء تعلق الأمر بأمراض الحنجرة والأنف أو الجلد أو غيرها فالطبيب يفحص والمرضى متكدسون في الرواق محدثين زحمة وفوضي. وحتى الممرضون يعانون المشكل نفسه فتراهم يقومون بكل المهام في مهمة واحدة فيوجهون وينصحون لأن الوافدين كثيرون جدا رغم أن هناك رزنامة لكل الفحوصات يحاول الطاقم الطبي السير وفقها تجنبا للفوضى. وماهو مثير للإستغراب توافد سكان شطيبو للتلقيح هنا رغم وجود مستوصف في بلدتهم يأخذ حصته من اللقاحات تماما كباقي المراكز الصحية؟!! ترى أين تذهب هذه التلقيحات؟ ومازاد الطين بلة أن سكان شطيبو يجدون وسائل نقل عمومية تتوقف قرب » الڤليزية« متمثلة في الحافلة رقم (49) يركبونها ويزاحمون مرض ابن سينا. .. حتى المراحيض مفقودة هذا المستوصف الكبير المسمى ب »الڤليزية« كان من ممتلكات كنيسة وهران إبان الفترة الإستعمارية وبعد عدة سنوات جاء كاهن لإسترداده لكنه قوبل بسوء معاملة من طرف المسؤول الأول على الصحة في 2000 حيث أنكرعليه الملكية نهائيا. الكاهن إنصرف في هدوء وبعد بضعة أشهر عاد بحكم قضائي جزائري يخوّل ويؤكد ملكية »الڤليزية« لمصالحه وكان بإمكانه إستردادها بحكم القانون الجزائري الذي اعترف له بذلك لكن هذا الكاهن تنازل عنهاوفق موثق وتضمنت وثائق التنازل شرطا واحدا وهو أن تبقى ذات طابع خدمة صحية ولا تحوّل أي نشاط آخر وتأدى الخدمة العمومية للسكان ومنع تحويلها إلى مساكن وظيفية. هذا ما جعل السكان يستفيدون منها ودخلت ضمن مكتسباتهم لاينازعهم فيها أحد خاصة أن كثيرا من الأراضي والمباني قد أسالت لعاب بعض »السماسرة«!. ومن المشاكل التي يتخبط فيها الطاقم الطبي والمرضى على حد سواء عدم وجود مراحيض، فهل يعقل أن تفتقر مؤسسة صحية لمرحاض؟ والجميع عند الحاجة يجدون أنفسهم مرغمين على البحث خارج المستوصف فالرجال يذهبون الى المقاهي والنساء إلى منازل الجيران، ترى كيف يكون حال العجائز والأطفال عند دخولك ساحة المستوصف تتأكد يقينا أن هذا المرفق كان في يوم من الأيام جوهرة خالصة لأن آثاره تدل عليه أشجار ونخيل شامخة، بلاط جميل، آثار كراسي ومقاعد حجرية لكن لا شيء من هذا سلم فرؤوس النخيل إلتوى عُنُقُها، وقد ظلت نخلة تصارع الطبيعة وسوء معاملة الإنسان وطالب مسؤول المستوصف القطاع الحضري إبن سينا بالمجيء لإقتلاعها حتى لاتسقط على رأس شخص أو أشخاص لكن لا حياة لمن تنادي إلى أن سقط رأسها مدويا ظل قابعا على الأرض إلى أن صار مرتعا للجرذان والفئران والثعابين والطيور فما كان على الطاقم الطبي والعمال إلا أن نقلوه خارج المستوصف تجنبا لما لا يُحمد عقباه خاصة أن هناك أيضا مرضى عقليين لا يدركون الخطر داخل قاعات العلاج الوضع ليس بأحسن حال فالأرضية بدأت تعرف طريقها إلى الإهتراء فعندما تمشي عليها تشعر أنها محذوبة و»تبشر« بإنزلاق قادم. وحدث في 2009 أن سقطت كتلة كبيرة من سقف بمكتب ومكان جلوس طبيبة ولحسن الحظ كان يوم عطلة نهاية الأسبوع وهذا ما دفع إلى بناء وتهيئة الهيكل المجاور لتنقل إليه جميع الخدمات. وعند حادثة 2009 تم ابلاغ المدير الولائي للصحة والسكان الذي عاين المكان وطلب بغلق المستوصف نهائيا، لكن هذا الأمر كان مستحيلا لأن الخارطة الصحية لهذه المنطقة بها تعداد سكاني كبير ورغم أن هناك جناح آخر تابع للمستوصف إلا أن مزاولة النشاط به كان مستحيلا لأنه لم يكن مهيئا وهو ما دفع إلى تسجيله لإعادة بنائه وهيكلته لينتقل إليه الطاقم الطبي. لكن الطاقم الطبي كما يقول الأطباء والممرضون والقابلات وجد نفسه يصارع ظروف عمل صعبة ترهن حتى صحة أفراده والمواطنين على حد سواء لأن لا شيء مما له علاقة بالصحة موجود في هذا المستوصف فصراحة وأنت تدخل »الڤليزية« لا تعرف هل جاء هؤلاء للتداوي أم للحصول على شهادة الميلاد (S12) فأعدادهم بالعشرات رجال ونساء أضناهم الصبر رغم أن الطاقم الطبي يحاول جاهدا مساعدتهم لكن ظروف العمل مزرية جدا. الهيكل الجديد الذي فتح لنا أبوابه الدكتور بردجي مكتملة أشغاله الكبرى بنسبة 90 بالمائة ومركبة حتى عداداته الكهربائية، وبلاطه وبعض نوافده، لكن توقف الأشغال به منذ جوان 2010 بعد أن انطلقت في جانفي من نفس السنة بدى أطلالا لا حياة فيها بل مقبرة للطيور والحمام التي جاءت تبحث عن الطوابق العالية فلقيت حتفها وصارت تنبعث من الحجرات الكثيرة روائح كريهة. ومن خلال الزيارة الإستطلاعية التي طفنا خلالها عبر الهيكل فإن هذا الأخير إذا عادت إليه الأشغال واكتملت فإنه سيكون مكسبا هاما لقطاع الصحة والسكان فهو يتوفر على أكثر من سبع أو ثماني قاعات تتوفر على كل اللوازم والتكنولوجيات الصحية وأيضا على صيدلية.. لكن أشغاله متوقفة منذ 10 أشهر بعد أن استغرقت 6 أشهر فقط . مشكل آخر عويص تم طرحه ويتعلق بهؤلاء المتعاقدين البالغ عددهم 40 لم يتقاضوا أجورهم رغم أنهم يشتغلون كالموظفين وأكثر وغالبا ما توكل لهم مهمات أخرى، فهل يعقل أن يظل أرباب أسر دون مال لعدة أشهر؟ وهل يعقل أن يقترض هؤلاء للمجيء إلى مكان »العمل«؟ ورغم المراسلات الكثيرة فلا أحد إستجاب لهم لأن مناصب عملهم غير متوفرة وتم قبولهم كمؤقتين. أغلب هؤلاء وراءهم أسر وأطفال يتحملون كل شيء لضمان القوت وتكاليف النقل ولا يذهبون إلى منازلهم عند منتصف النهار بمعنى أنهم يتدبرون المال لشراء الغذاء أو البقاء جياعا إلى أن يغادروا إلى منازلهم ورغم ذلك قد وجدناهم يزاولون عملهم بجد لأنهم كما قالوا : هذا المستوصف لنا وهو يوفر لنا منصب عمل رغم أننا لا نتقاضى شيئا ، لكن قد يأتي يوم وتسوى أوضاعنا ونصير موظفين كغيرنا خاصة أننا نعيل أسرا وعلينا تحمل المسؤولية كاملة تجاههم المسؤول الأول على المؤسسة العمومية للصحة الجوارية (الغوالم) الذي إلتقينا به منذ مدة اعترف لنا بالوضع السائد والظروف التي يشتغل فيها الطاقم الطبي ويتداوى فيها أيضا المرضى من الكبار والصغار وأيضا المدة الزمنية التي ظل خلالها القطاع الصحي بين اللامبالاة وتآكل جدرانه وبالتالي زوال آثاره جوهرة معمارية يعتز بها حي (فيكتور هيڤو). وكشف لنا مصدرنا أن الأشغال كانت مقررة في ماي وتنتهي في آجالها وتُسلم الهياكل موضوع التوقف مباشرة لصالح المواطنين وسيتم صرف ميزانية ما تبقى من كل الأشغال مباشرة عند تسلم الغلاف المالي لهذه السنة المالية لكن لحد الآن لا شيء تحرك وقد زرنا المستوصف يوم الأحد فاتح أوت ووجدناه على حاله. وعن سبب الأخذ والرد وتقاذف المسؤولية بين عدة أطراف ومصير المقاولة التي بدأت الأشغال ثم توقفت مرة واحدة أكد لنا محدثنا أن المشروع كان في البداية لدى مديرية الصحة والسكان ثم عاد للمؤسسة العمومية للصحة الجوارية (الغوالم) لكن هذه الأخيرة كانت لديها أولويات أخرى. وأضاف أن مكتب الدراسات أنجز ما تبقى من أشغال ويبقى أن تستأنف مؤسسة مقاولة الأعمال لتسليم كل شيء في آن واحد، دون أن يفصح لنا عن قيمته المالية. أما ما يتعلق بالعمال المتعاقدين عبر جميع مصالح المؤسسة العمومية للصحة الجوارية والذين يشتغل بعضهم منذ 1999 و2000 فالحال لا تتوفر عليه مؤسسته لأن المناصب المالية لإدماجهم غير متوفرة ولم تكن متوفرة أيضا عند تشغيلهم علما أن المؤسسات العمومية للصحة الجوارية قد نشأت في 19 ماي 2007 . وقد تم دفع رواتبهم إستثناء عام 2010 بتدخل من وزير الصحة وتعليمة من الوزير الأول أما هذه السنة فلم يتقاضوا شيئا ، ويوظف هؤلاء المتعاقدون على أساس حساب تكاليف ما قد تستهلكه المؤسسة الصحية فعندما تحسب جميع نفقاتها من الميزانية السنوية، وتحسب كتلة الأجر فإن ما تبقى من مال هو ما يدفع إلى توظيف متعاقدين حسب الحاجة والمدة. ثم إن الدفع لهؤلاء »العمال« مرتبط ارتباطا وثيقا بالمراقب المالي الذي يخضع لعدة قوانين. علما أن المؤسسة تشغل 65 متعاقدا تختلف مدة عملهم بمختلف المصالح الصحية.